الطريق البحري الشمالي.. ماذا يعني لروسيا؟

روسيا التي تطل عبر آلاف الكيلومترات على القطب المتجمد الشمالي، ستتمكن عبر طريق الشمال من أن تُفشل المحاولات الأميركية لتطويقها وتطويق الصين معها.

0:00
  • ما أهمية طريق الشمال بالنسبة لروسيا؟
    ما أهمية طريق الشمال بالنسبة لروسيا؟

شهدت روسيا انعقاد فعّاليات المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك، خلال الأسبوع الأول من شهر أيلول/سبتمبر، والذي بات يشكل حدثاً عالمياً تسعى روسيا من خلاله لتنمية شرقي البلاد، والانفتاح عبره على دول شرقي آسيا، وعلى رأسها حليفتها الصين. 

كان اللافت في هذا المنتدى حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً أعمال هذا المنتدى، وإلقاءه خطاباً حدد فيه الخطوط العريضة لتوجهات بلاده الاقتصادية، وعلى رأسها إقامة منظومة اقتصادية بديلة من الهيمنة الأميركية، عبر تدعيم منظمة بريكس وتوسيعها، إضافة إلى زيادة التعاون الاقتصادي مع الدول الحليفة والمتضررة من سياسات الهيمنة والعقوبات الأميركية والغربية، عدا عن تدعيم الإنتاج المحلي الروسي والتخلي عن الدولار في المبادلات التجارية مع الدول الصديقة، وإبدالها بالعملات المحلية.

أهمية طريق الشمال

أبرز ما كشفه الرئيس الروسي عزم بلاده على زيادة حركة الشحن عبر طريق بحر الشمال، أو المحيط المتجمد الجنوبي، مؤكدا العزم على إنشاء منطقة مركزية للنقل في مورمانسك، وداعياً الدول الصديقة إلى المشاركة في هذه المنطقة المركزية، والاستفادة من ميزاتها.

ما يدعم مساعي الرئيس بوتين وروسيا للاستفادة من طريق، يُشَقّ عبر المحيط المتجمد الشمالي، هو التطور الكبير في إنتاج السفن الكاسحة للجليد، والعاملة عبر الطاقة النووية، وهو ما عززته تصريحات المسؤولين في شركة "روس أتوم" الروسية، والذين أكدوا القدرة على إنتاج أسطول من كاسحات الجليد، يمكنه أن يشكل دعامة للنقل التجاري البحري عبر القطب المتجمد الشمالي. 

من شأن هذا الطريق أن يختصر، بصورة كبيرة، المسافة بين الصين وشرقي اسيا من جهة، وأوروبا من جهة أخرى، إذ إنه يمتد عبر ممر الملاحة الشمالي من نوفايا زيمليا، في أقصى الشمال الغربي لروسيا، إلى مضيق بيرنغ في الشرق، علماً بأن طول طريق بحر الشمال يبلغ 5600 ميل، بينما تبلغ المسافة الكاملة من مورمانسك إلى الموانئ الصينية، عبر طريق البحر الشمالي، 7 آلاف ميل، في مقابل 12500 ميل عبر قناة السويس، وهو أقصر كثيراً من طُرُق الشحن التقليدية عبر قناة السويس، أو قناة بنما، الأمر الذي يجعله خياراً جذاباً  للتجارة بين آسيا وأوروبا، عدا عن إتاحته إمكان استخراج الموارد الطبيعية في منطقة القطب الشمالي. ويمكن لهذا الطريق أن يستفيد من عدد من المحطات التجارية ومراكز النقل وتنميتها لتنافس الموانئ التقليدية في جنوبي آسيا. وتشمل الموانئ الرئيسة على طول طريق التجارة في القطب الشمالي كلاً من مورمانسك وأرخانجيلسك وفلاديفوستوك في روسيا، فضلاً عن ترومسو في النرويج. ويمكن أن تعمل مراكزَ رئيسة للشحن والتزود بالوقود والخدمات اللوجستية للسفن العاملة على امتداد هذا الطريق البحري.

الجدير ذكره أنه بات من الممكن مؤخراً إطلاق هذا الطريق نتيجة عدة متغيرات، أولها ذوبان الجليد البحري في القطب الشمالي نتيجة الانحباس الحراري، والتقدم التكنولوجي الكبير في إنتاج كاسحات الجليد العاملة عبر الطاقة النووية، وخصوصاً في روسيا، الأمر الذي قلل مخاطر الإبحار في هذه المنطقة ذات الظروف المناخية القاسية، وفتح فرصاً جديدة للتجارة الدولية واستغلال الموارد في المنطقة.

ومن شأن إطلاق هذا الطريق وتفعيله أن يجعلا أوقات العبور بين شرقي اسيا وأوروبا أقصر. فعبور السفن التجارية، عبر طريق القطب الشمالي، يمكنه أن يختصر مسافة السفر بين أوروبا وآسيا بآلاف الكيلومترات، الأمر الذي سيختصر أوقات عبور السفن وتكاليف الشحن بصورة كبيرة. وهو يشكل طريق بحر الشمال بديلاً استراتيجياً من طرق التجارة التقليدية التي تمر عبر مضيق ملقة وقناة السويس وقناة باناما، وهو يمكن أن يساعد روسيا على أداء دور محوري في التجارة والشحن العالميين.

سلاح في مواجهة أميركا 

لكن أهم ما في هذا الطريق هو أن روسيا، التي تطل عبر آلاف الكيلومترات على القطب المتجمد الشمالي، ستتمكن عبر طريق الشمال من أن تُفشل المحاولات الأميركية لتطويقها وتطويق الصين معها، عبر منعهما من الوصول إلى طرق التجارة البحرية التقليدية. والمعروف أن سياسة الولايات المتحدة، المبنية على احتواء القوى الأوراسية، استناداً إلى نظريات ألفرد ثاير ماهان وهلفورد ماكندر ونيكولاس سبيكمان وجورج كينان وهنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي وغيرهم، سعت، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى محاصرة روسيا عبر توسيع حلف شمال الأطلسي إلى شرقي أوروبا، ومنع روسيا من الانطلاق عبر بحر البلطيق إلى المحيط الأطلسي، وعبر أوكرانيا إلى البحر الأسود، وعبر سوريا إلى شرقي المتوسط.

كما سعت لمنع إيران، وهي حليفة روسيا، من الوصول إلى شرقي المتوسط عبر سوريا ولبنان، وإلى باب المندب عبر اليمن، عدا عن سعي واشنطن للسيطرة على مضيق هرمز ومضيق ملقة، وخلق مشكلات في بحر الصين الجنوبي وفي مضيق تايوان من أجل منع الصين من الوصول إلى طرق الملاحة البحرية، وبالتالي إلى التجارة العالمية، التي يمر 80 في المئة منها عبر البحار والمحيطات.

هذا هو السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تسعى لعرقلة طريق الشمال، وهو ما حدا بها إلى تحريك بعض أدواتها، وضمنها منظمات بيئية غير حكومية مموَّلة منها من أجل إثارة مخاوف بيئية من إمكان تسبب هذا الطريق بالتلوث في القطب الشمالي، مع ما يترتب عليه من تبعات بيئية سلبية، مثل التلوث النفطي، والتلوث الإشعاعي ومخاطره على زيادة ذوبان الجليد وارتفاع منسوب البحار، وتهديده عدداً من المناطق الساحلية. وسوف تحتاج البلدان إلى الموازنة بين الفرص الاقتصادية والمخاوف البيئية، والعمل معاً على حماية النظام البيئي الهش في القطب الشمالي.

ومن شأن تفعيل طريق بحر الشمال، عبر القطب الشمالي، زيادة المنافسة بين الدول المحاذية للقطب المتجمد الشمالي، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة وكندا والنروج، في السيطرة على المنطقة ومواردها، الأمر الذي من شأنه تصعيد التوترات والصراعات الجيوسياسية. وما يعزز هذه المخاطر غنى المنطقة بالموارد الطبيعية، إذ يُعتقد أن منطقة القطب الشمالي تحتوي على احتياطيات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي والمعادن.

ومن الممكن أن يؤدي فتح طريق تجاري، عبر القطب الشمالي، إلى زيادة المنافسة بين البلدان على الوصول إلى هذه الموارد، وهو ما قد يؤدي إلى إشعال فتيل الصراعات بشأن حقوق استغلالها. وهذا قد يؤدي إلى التوجه إلى عسكرة المنطقة، إذ إن العوامل التي ذكرناها آنفا، والأهمية الاستراتيجية لطريق التجارة في القطب الشمالي، قد تؤدي أيضاً إلى زيادة الوجود العسكري في المنطقة، مع سعي البلدان إلى حماية مصالحها وتأكيد مطالباتها الإقليمية.

خلاصة واستنتاجات

على الرغم من كل العوامل، التي ذكرناها آنفاً، والتي تجعل طريق الشمال بديلاً من قناة السويس، فإن من غير المحتمل أن يؤدي هذا إلى إدارة روسيا ظهرها لمنطقة الشرق الأوسط.

فطريق الشمال سيربط بين شرقي آسيا وأوروبا، التي تعادي روسيا وتسعى للقطيعة التامة معها. كذلك، فإنه في العصر الحالي، بحيث تطرح روسيا نفسها ضمن تكتلَي شنغهاي وبريكس، اللذين يحاولان مواجهة الهيمنة الأميركية – الغربية على العالم، فإن أفريقيا هي التي ستكون ساحة التنافس الرئيسة. لذا، فإن منطقة الشرق الاوسط ستكون المنطقة المثالية لانطلاق الصين وروسيا في اتجاه أفريقيا، وهذا ما يفسر اهتمام روسيا بانضمام مصر وإيران والإمارات العربية المتحدة وإثيوبيا إلى المنظمة، وترحيبها بطلب سوريا والجزائر وتركيا العضوية في المنظمة.