الطيب والكاذب والشرير
مثل كلّ أفلام هوليوود، أصبح بمقدور المشاهد توقّع لقطة النهاية، فالبطل الهوليوودي لا يهزم حتى لو طرد من فيتنام أو العراق أو أفغانستان، فهو قادر على صناعة قصة انتصار ودفع الشعوب إلى تصديقها.
-
مثل كلّ أفلام هوليوود، أصبح بمقدور المشاهد توقّع لقطة النهاية!
تذكّرت عنوان الفيلم الأميركي "الجيّد والسيّئ والقبيح" الذي أنتجته هوليوود عام 1966 واعتبر إحدى أيقونات أفلام الغرب الأميركي. يحاول أبطال الفيلم إقناعنا بأنّ هناك فرقاً بين أبطال الفيلم ينسجم مع العنوان، مع أنهم، جميعاً، يلجأون إلى سحب مسدساتهم بسرعة وإطلاق النار مع من يختلفون معه أو يحاول اعتراض طريقهم.
عند مراقبة ما حدث خلال الأيام الأخيرة، وخاصة الهجوم "الإسرائيلي" على العاصمة القطرية الدوحة، تشعر بصعوبة التمييز بين أبطال الأحداث، وموقع كلّ منهم في الرواية الإعلامية التي تقصف بها عقولنا. إن كانت الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تقدّم أداء مميّزاً بدور الكاذب، إلّا أنّ أداءها لا يقلّ تميّزاً في دور الشرير الذي يستلّ طائراته ليقصف من يعاند مخطّطاته، أو يدخل في مواجهة مع حلفائه.
الاتحاد الأوروبي الذي يؤدّي دور الشرير في الحرب الأوكرانية – الروسية، انحاز إلى جانب الشرير مع بداية العدوان الصهيوني على غزّة، وهرع قادته لزيارة "تل أبيب" للإعراب عن دعمهم الكامل لحكومة العدوان. لكنه وتحت وطأة مشاهد المجازر، والضغط في الشارع، قدّم أداء رائعاً في دور الكاذب الذي يتكلّم عن الإنسانية أمام الشاشات، وخلفها يقدّم للمجرمين الأسلحة التي ينفّذون بها مجازرهم، ويصمّم على التعامل مع المقاومة بصفتها حركات إرهابية، في حين أنّ هذا المصطلح لا يمكن أن يستعمل بحقّ من يرتكب الإبادة الجماعية بحقّ المدنيين على مدى 23 شهراً. حتى بيان إدانة العدوان "الإسرائيلي" على قطر، لم ينسَ مصدروه الدعوة إلى اعتبار حركة حماس إرهابية، والمطالبة بإنزال أقسى العقوبات عليها.
على عكس جميع التوقّعات فإنّ الطيّب في الرواية ليس الفلسطيني الذي يقدّم عشرات الشهداء يومياً في القطاع، ويعيش ظروفاً أقلّ وصف لها بأنها غير إنسانية. وليس اليمني الذي يتعرّض للحرب والحصار. الطيب هو زعماء سياسيون أوروبيون يطلقون الوعود بالاعتراف بدولة فلسطينية، أو ذلك الأوروبي أو الأميركي الذي يخرج إلى الشوارع لدعم الفلسطينيين، وأهالي الأسرى الصهاينة الذين يتظاهرون في شوارع "تل أبيب"، أو دولة مثل قطر، تعمل من أجل السلام لكنها تتعرّض لغدر الشرير، ويختفي من تاريخ هذه الدولة دورها في ليبيا وسوريا واليمن.
بعيداً عن تبادل الأدوار في هذا "الفيلم الأميركي الطويل"، فإنّ المتابع يدرك سريعاً أننا أمام مجموعة من الأشرار الذين يتبادلون الأدوار فيما بينهم، هناك ما يحدث على أرض الواقع، وكلّ الدلائل تشير إلى أنّ النظام الغربي يمرّ بأزمة سياسية حقيقية، وأنّ هذه الأزمة تدفعه إلى التخبّط في قراراته إلى درجة الوصول إلى التصادم الثنائي داخل المعسكر الاستعماري نفسه، وهذا ما حدث مؤخّراً في الغارة الصهيونية على قطر.
كما هو واضح، فإنّ محاولة اغتيال قيادة حركة حماس كانت عملية متسرّعة وغير مخطّط لها بدقة، وقد تدخّلت فيها عوامل غير عسكرية مثل رغبة نتنياهو بالانتقام للعملية الفدائية في القدس، للاحتفاظ بصورة البطل أمام جمهوره اليميني المتطرّف. اعتمد تنفيذ هجوم الدوحة على أنّ حماس مضطرة للعودة إلى المفاوضات حتى لو اغتيلت قيادتها، وذلك تحت وطأة الضغط الإنساني بالدرجة الأولى، والضغط العسكري الذي تمارسه "إسرائيل" عليها.
أدّى تسرّع نتنياهو وكاتس إلى فشل العملية عسكرياً، ويمكن أن يؤدّي إلى كارثة سياسية تفاوضية للمحور الصهيو ـــــ أميركي إذا انتقلت المفاوضات إلى القاهرة، بصفة مصر إحدى الدول المنخرطة في الوساطة بين العدو الصهيوني والمقاومة. مصر لها مصالح مباشرة في كلّ تفاصيل ما يحدث في غزّة، وبشكل خاصّ موضوع التهجير. كما تتطلّع مصر إلى تأدية دور مهمّ في عملية إعادة الإعمار التي تقدّر كلفتها بحسب البنك الدولي بنحو 53 مليار دولار، وكذلك إلى استعمال المعابر التي تربطها بالقطاع كممر للمواد الأولية الضرورية لإعادة الإعمار لاحقاً. وجود مصر على رأس طاولة المفاوضات مكان قطر سيمنح المقاومة ميزات تفاوضية لا تريدها كلّ من "إسرائيل" والولايات المتحدة.
في هذا السياق جاءت الرواية الإعلامية التي تبرّئ الموساد من المشاركة في العدوان على الدوحة، والحديث عن أنّ موقف الموساد مرتبط بالرغبة بالعودة إلى الدوحة لاستئناف المفاوضات، وهو ما قاله صراحة مستشار رئيس الحكومة القطرية، وكذلك محاولة تصوير العدوان الإسرائيلي على أنه معركة بين قطر ونتنياهو شخصياً، وليس عدواناً إسرائيلياً. يضاف ذلك إلى تأكيد الإدارة الأميركية أنّ هذا الهجوم لن يتكرّر مستقبلاً، في رسالة تطمين إلى جميع الأطراف.
أوروبا التي لم تعد قادرة على القيام بأيّ دور دولي، بعد أن أقصتها الولايات المتحدة عن المشهد في منطقة شرق المتوسط، وورّطتها في حرب في الداخل الأوروبي. هذه العجوز تحاول استعراض عضلاتها المنهكة من خلال التصريحات الساخنة فيما يتعلّق بالحرب الأوكرانية ـــــ الروسية، حتى أنك تشعر أحياناً أنّ دولاً مثل ألمانيا وفرنسا ذاهبة إلى الحرب غداً، لكنّ تلك العضلات الواهنة لا تلبث أن تنهار تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.
لعلّ ما حدث في فرنسا من الدعوة إلى عصيان مدني، واستقالة رئيس الجمهورية، أبلغ دليل على عمق الأزمة التي تعيشها كبريات الدول الأوروبية، والتي تهدّد بقاء الاتحاد الأوروبي نفسه.
مثل كلّ أفلام هوليوود، أصبح بمقدور المشاهد توقّع لقطة النهاية، فالبطل الهوليوودي لا يهزم حتى لو طرد من فيتنام أو الصومال، أو العراق أو أفغانستان، فهو قادر على صناعة قصة انتصار وتعميمها ودفع الشعوب إلى تصديقها. ما فعله طوفان الأقصى ومحور المقاومة كان كسر تلك الرتابة، وإعلان الحقيقة الواضحة، من أنّ إرادة المقهورين والمضطهدين قادرة على الصمود أمام أعتى أسلحة القوى الاستعمارية، وأنّ إرادة الشعوب هي التي تكتب الفصل النهائي في قصصها مهما