السحر إذ ينقلب على الساحر... نتنياهو في آخر غزواته كسر عصاه
"غزوة الدوحة" ستساعد الجانب الفلسطيني، وليس الإسرائيلي، على إنجاز هدف تسريع الوصول إلى خط نهاية لهذه الحرب المدمرة، وربما بشروط أفضل مما كان نتنياهو يظن ويأمل.
-
هل يفعلها العرب هذه المرة؟
ظنّ بنيامين نتنياهو أنه باستهدافه قادة حماس في الدوحة، سيضع اللمسات الأخيرة على صورة "النصر المطلق" على غزة وشعبها ومقاومتها ويُظهّرها، وأنه سيُسرّع إنجاز أهداف حرب التطهير والإبادة، فإذا بالفشل الذي أصيبت به العملية الغادرة، يقلب السحر على الساحر، ويحوّل "الضارة الفلسطينية إلى نافعة"... رمى "ملك إسرائيل" بأوراقه دفعة واحدة على مائدة القمار، فخرج مجللاً بالخزي وأطواق العزلة.
طبعاً، كان يمكن للمشهد أن يكون مغايراً تماماً، لو أن الحظ أسعفه هذه المرة، كما أسعفه في مرات سابقة. الأمر كان يستحق المجازفة من وجهة نظر مغامر ومجنون. لو أنجزت الضربة الجوية أغراضها، لما تسابق جنرالات "إسرائيل" وسياسيوها للانفضاض من حوله، والنأي بأنفسهم عن قراره الأحمق، كما شرعوا يفعلون ما إن تناهت إلى أسماعهم أنباء الفشل... ولما وجد دونالد ترامب نفسه محرجاً في التعبير عن "الأسف" و"عدم الارتياح" و"الحزن"، لأن العملية تمت على أرض قطر، وليس لأنها استهدفت قادة حماس، ولربما خرج علينا بتصريحات كتلك التي صدرت عنه في أعقاب استشهاد السيد حسن نصر الله: العالم أفضل بكثير من بعده، والعالم سيكون أفضل بكثير من بعد تصفية قادة حماس.
ما كان لإسرائيل أن تقترف فعلتها النكراء من دون علم الولايات المتحدة، من دون تنسيق "عملاني" على الأقل، مع قاعدتي العيديد والسيلية... تكذب إدارة ترامب إذ تتنصل من معرفتها المسبقة، وتكذب حين تقول إن الوقت لم يسعفها لتنبيه قطر... وتكذب حين تدّعي أنها ما كانت لتوافق على استهداف قادة حماس في الدوحة بالذات، مع أنها لا تنكر أن هدف العملية "مشروع" تماماً، أما مكانها، ففيه نظر.
لم تفعل "إسرائيل" طيلة عامي حربها البربرية على غزة شيئاً لم تفعله الولايات المتحدة من قبل... قتلت بن لادن على أرض دولة صديقة وحليفة (باكستان)، وقتلت قاسم سليماني، الجنرال الإيراني "الرسمي"، وليس قائد ميليشيا، على مسافة أمتار من مطار بغداد، حيث الاتفاق الأمني والتحالف ضد داعش. في الحالة الأولى، خرج الرئيس الديمقراطي باراك أوباما مفاخراً. وفي الحالة الثانية، كان ترامب هو من أعطى الأمر بالقتل إبّان ولايته الأولى... في الحالتين، لا تستطيع واشنطن أن تَنهَى تل أبيب عن خلقٍ، وهي التي لطالما أتت بمثله. عارٌ عليها إن فعلت عظيم.
والأخطر من هذا وذاك، أن "لعبة الخداع" التي مارستها تل أبيب وواشنطن، اللتان كانتا بانتظار رد حماس على أحدث مبادرة للرئيس الأميركي، تذكّر بـ"لعبة الخداع" التي مارسها الحليفان، في البيت الأبيض و"الكرياه"، حيال إيران، إذ تعمّدا استهداف منشآتها النووية والاستراتيجية وهي في غمرة تفاوض جدي وجاد لحل أزمة برنامجها النووي دبلوماسياً، وقبل بدء الجولة السادسة من المفاوضات بأقل من 48 ساعة فقط... لا أحد في واشنطن-ترامب، ولا في "تل أبيب"-نتنياهو، يكترث بالمصداقية، فلا قيم ولا أخلاق ولا قانون يحرّك أياً منهما.
في آخر غزواته كسر عصاه
بفشله المدوي في "غزوة الدوحة"، يكون نتنياهو قد لفّ حبلاً حول عنقه، ومن المتوقع أن يشتد هذا الحبل، ويضيق، مع تتالي ردود الأفعال الدولية حول ما جرى، وبعد أن تهضم عواصم الإقليم والعالم دلالة الفعلة النكراء التي أقدم عليها "مجنون إسرائيل"... حتى "حماقة" ترامب ستجد صعوبة في التأقلم مع هذا القدر من الجنون، وهذه الثقة المطلقة بالنفس وبالذراع الاستخبارية والعسكرية الطويلة لأزعر الحي المنفلت من كل عقال قانوني، ومن كل رباط أخلاقي... الفشل يتيم، ونتنياهو سيدفع وحده ثمن فشله، وربما من حوله جوقة "المطبلين والمزمرين" من طراز كاتس وبن غفير وسموتريتش... أما النجاح فله مئة أب، ولو كُتب النجاح لهذه العملية، لبادر ترامب إلى تبنيها، وربما لهذا السبب بالذات، لهذا الوهم بالذات، سارع نتنياهو إلى نشر فيديو قصير، يظهره في غرفة عمليات الشاباك، يتابع فصول جريمته النكراء، مشدود الأعصاب، لحظة بلحظة، فهو يريد للتاريخ الإجرامي لكيانه أن "يخلّده" كأحد أبرز مجرمي الحرب الإسرائيليين.
"غزوة الدوحة" تعطي مصداقية إضافية للرواية الفلسطينية، وتظهر للعالم بأسره، وبصورة لا تقبل النقض والتأويل، من هو المسؤول عن استمرار المذبحة في غزة... تلجم الأبواق المتهافتة والمتصهينة، في فلسطين والعالم العربي، التي اعتادت إلقاء اللائمة على أكتاف حماس وقادتها... تعطي مبررات إضافية للمفاوض الفلسطيني في رحلته المُضنية للبحث عن ضمانات وتطمينات، بات "الوسيط العربي" بحاجة إليها، وليس "المفاوض الفلسطيني" وحده من يريدها.
"غزوة الدوحة" ستساعد الجانب الفلسطيني، وليس الإسرائيلي، على إنجاز هدف تسريع الوصول إلى خط نهاية لهذه الحرب المدمرة، وربما بشروط أفضل مما كان نتنياهو يظن ويأمل... وستُلقي على كاهل "الوسيط الأميركي"، غير النزيه، أعباء إضافية، في صدارتها عبء الحفاظ على مسار التطبيع المهتز الذي يزداد هشاشة على وقع انتقال الاستهداف الإسرائيلي من ضرب أطراف ما كان يعرف بمحور المقاومة إلى الضرب في قلب معسكر "الاعتدال العربي" ونادي أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها... صدق من قال إن إسرائيل، بعد السابع من أكتوبر وتداعيات الطوفان، تتحول من ذخر لحلفائها إلى عبء عليهم.
المفارقة أن "إسرائيل" التي خرجت إلى "غزوة الدوحة" لتصفية المفاوض الفلسطيني وقتل خيار المفاوضات وإحراج الوسطاء لإخراجهم، ستجد نفسها بعد الفشل مرغمة على الانخراط في هذا المسار من جديد، وإن بعد حين، وربما بشروط أصعب عليها، وأكثر مواءمة لمن أرادت قتلهم ودفنهم في رمال الخليج.
لن تخرج الدوحة من دور الوسيط في مفاوضات إنهاء الحرب على غزة، وليس للفلسطينيين مصلحة في خروجها. قد تعلَّق المفاوضات لحين من الوقت، ولكن استئنافها سيستوجب عودة الدوحة إلى دورها، فهي الجهة التي "يستأنس" بها الفريق الفلسطيني أكثر من غيرها، وهي الأكثر تفهماً لحساباته وحساسياته... في "إسرائيل"، ثمة من يدركون أهمية الدور القطري، وربما لهذا السبب بالذات، "تحفظوا" على اختيار الدوحة مكاناً لتنفيذ ما يُجمعون عليه: تصفية قيادة حماس، بل وحركات المقاومة برمتها... لن تنفع جهود بشارة بحبح، ولا غيرشون باسكين، والقاهرة وحدها لن تكون قادرة على حمل هذا العبء، وثمة حاجة تنشأ أحياناً لتدوير بعض الزوايا الحادة التي تباعد ما بين مواقف حماس ومواقف الوسيط المصري.
على أن الدوحة، ستكون بحاجة أكبر، لإسناد عربي أكثر فاعلية، كما أنها ستكون بحاجة لمزيد من الضمانات من لدن إدارة ترامب، التي لم ترقَ مواقفها بعد إلى مستوى التعبير عن إدانة "الغزوة"، وستخضع لاختبار حاسم حين يلتئم مجلس الأمن للبحث في العدوان الغادر على قطر وقيادة حماس، فهل تجاري العالم بإدانته السلوك الإسرائيلي المزعزع للاستقرار والأمن أم أنها ستواصل لعبتها القديمة: اللجوء إلى سلاح الفيتو لقتل الإجماع الدولي؟
هل يفعلها العرب هذه المرة؟
أما العرب، وبعد أن يخرجوا من صدمة استهداف واحدة من عواصم الاعتدال والوساطة وفض النزاعات، فإن عليهم مغادرة مربع "الإدانة" و"الإدانة بأشد العبارات"... الأمر لم يعد يحتمل المزيد من بيانات الشجب والاستنكار والمناشدات الفارغة للمجتمع الدولي... لديهم وفرة من أوراق الضغط والقوة، وعليهم تفعيلها، فالتوحش الإسرائيلي بات يهدد القادة العرب في غرف نومهم، وجنوح "تل أبيب" وواشنطن إلى الهيمنة، لا يلحظ مصالحهم وحساباتهم، والتجربة دلّت بالملموس على أن للولايات المتحدة حليفاً واحداً في الشرق الأوسط، هي "إسرائيل"، و"الباقي فراطة".
رغم نبرة القلق والتحسب والغضب إن شئتم، التي تسود خطاب العواصم العربية، فإن التجربة المتراكمة مع النظام الرسمي العربي، لا تُبقي مطرحاً للتفاؤل، ولا سيما أننا خبرنا من قبل "فزعات" من هذا النوع، سرعان ما تتبدد عندما تُشهر في وجه عواصمنا، "الفزّاعات" إياها، ويجري تخليق أعداء وهميين وتهديدات "شبحية"، لا وظيفة لها سوى حجب الرؤية عن العدو الوحيد والتهديد الوجودي.
والحقيقة أن خلو معظم بيانات شجب العدوان الإسرائيلي والتضامن مع قطر من إدانة محاولة استهداف قادة حماس واستنكارها، والتعبير، ولو بالحد الأدنى، عن التضامن مع الحركة التي تقارع "إسرائيل"، كما لم يفعلوا هم أنفسهم، هو مؤشر باعث على القلق، ربما يرسم سقفاً أعلى لما يمكن أن تصل إليه ردود الأفعال العربية، إذ ربما ما زال من بينهم من يعتقد أن خطر حماس أولى بالمعالجة من خطر الهيمنة والتوحش الإسرائيلي الزاحف.