الغياب الذي أيقظ الذاكرة: ياسر عرفات في زمن الطوفان
في ذكرى رحيل القائد الفلسطيني ياسر عرفات، تتقاطع الذاكرة مع الحاضر، ويستيقظ الضمير العربي على زمنٍ جديدٍ من المقاومة والوعي.
-
لم يكن ياسر عرفات قائداً سياسياً بقدر ما كان ضمير فلسطين المتحرّك.
في زمنٍ تتكاثف فيه النار فوق غزة، وتشتعل السماء بشرارات القهر والأمل،
تنهض من الذاكرة صورة رجلٍ غاب جسده منذ واحدٍ وعشرين عاماً،
لكنّ صوته ما زال يدوّي بين الركام، وكوفيّته ما زالت تُرفرف فوق الجماهير في الساحات:
ياسر عرفات، أبو عمّار.
كأنّ طوفان الأقصى لم يكن انتفاضةً جديدة،
بل يقظة الذاكرة التي رأت في وجوه المقاتلين ظلَّ أبي عمار،
وتذكّرت أنّ الكوفية ليست زينةَ رأسٍ، بل رايةَ وطنٍ لا يموت.
لقد أيقظت المحرقة الأخيرة على غزة ما حاولت السنوات العجاف أن تُخمده:
ذاكرة الرجل الذي جعل من النكبة بدايةً لا نهاية،
ومن المنافي جسوراً للعودة،
ومن الثورة مدرسةً للأخلاق، ومن الزهد ميثاقاً للقيادة.
في زمن الطوفان، كأنّ الغياب قد انكسر،
وأنّ روح عرفات خرجت من بين الصور لتسكن الهتاف الشعبي مجدّداً،
تذكّرنا بأنّ القائد الذي رحل عام 2004، لم يغادر حقّاً،
بل ظلّ في ضمير فلسطين يراقب أبناءه وهم يكتبون فصلاً جديداً من ملحمته.
عرفات.. القائد الذي وحّد المختلفين
لم يكن ياسر عرفات قائداً سياسياً بقدر ما كان ضمير فلسطين المتحرّك، الرجل الذي أدرك أنّ الوطن فكرة قبل أن يكون خريطة، وأنّ القيادة فعلُ إيمانٍ قبل أن تكون موقعاً. ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسه مع رفاقه ـــــ أبو جهاد، أبو إياد، كمال عدوان، فاروق القدومي ـــــ حركة "فتح"، آمن أنّ الثورة لا تُدار من المكاتب بل من الميادين، وأنّ الوحدة هي السلاح الأشدّ مضاءً من البنادق.
استطاع أن يجمع المتناقضات: اليساري والإسلامي، ابن المخيم والمغترب، المقاتل والدبلوماسي. لم يكن يُقصي من خالفه، بل كان يحتويه كما تحتوي فلسطين تنوّعها وتناقضاتها. وكان يقول دائماً: "من يرفع علم فلسطين فهو معنا". ولهذا ظلّ القائد الجامع، لا الزعيم الحزبي.
وعندما اجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت عام 1982، وقف ثابتاً على أرضٍ تحترق، يغادرها مرفوع الرأس لا منكسراً، كما لو أنّه يُؤكّد أنّ الثورة لا تُهزم ما دامت تحمل رايتها بنفسها. وفي المقاطعة، حين حاصره الاحتلال وحاول إذلاله، حوّل عرفات الحصار إلى أسطورة صمود. كان وحده أمام "جيشٍ" مدجّج، لكنه قال للعالم:
"يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً، وأنا أقول لهم: شهيداً... شهيداً... شهيداً...".
تلك العبارة لم تكن نبوءة بموته، بل إعلاناً بأنّ الزعيم الحقّ لا يُغادر ميدان شعبه حتى النهاية.
النزاهة والزهد.. قداسة الثورة
كان أبو عمّار يعيش كما يحيا المقاتلون: طعامه بسيط، نومه قصير، وثيابه العسكرية لا تفارقه حتى في اجتماعات القادة والزعماء. لم يعرف القصور ولا أرصدة البنوك، بل عرف دفء التراب ورائحة البارود. كان يرى في الزهد جوهر المقاومة؛ فمن يتحرّر من المال لا يُمكن أن يُستعبد، ومن يزهد في الكرسي يظلّ حرّاً في قراره حتى النهاية.
حين سُئل عن سبب تمسّكه بزيّه العسكري، ابتسم وقال: "لأنّ المعركة لم تنتهِ بعد".
كانت غرفته في المقاطعة أقرب إلى خيمةٍ من خيام الثورة: جدرانٌ مغطاة بالخرائط، وسريرٌ حديديٌّ بسيط، وصورة لقدسٍ بعيدةٍ ما زال يراها قريبة.
ذلك الزهد، وتلك النزاهة، هما اللذان جعلا من عرفات ضمير القيادة الفلسطينية، القائد الذي لم يغره بريق السلطة، ولم تلوّثه شبهة مالٍ أو مجدٍ زائل.
ولأنّ القيم لا تموت، ظلّ حضور عرفات الأخلاقي يتردّد في ذاكرة شعبه بعد رحيله.
من الغياب إلى الحضور.. حين تتكلّم الذاكرة
رحل عرفات في تشرين الثاني/نوفمبر 2004، لكنّ فلسطين لم تعرف يوماً غياباً كاملاً له. ففي كلّ حصارٍ جديد، وفي كلّ مواجهةٍ مع الاحتلال، يعود صوته في الهتاف، وصورته في المواكب، وكوفيّته في الميادين.
ومع طوفان الأقصى، كأنّ الغياب انتهى، وكأنّ الذاكرة نفسها خرجت من صمتها الطويل لتقول: هذا هو الطريق الذي بدأه أبو عمّار... من وحدة البندقية إلى وحدة الوعي.
لقد أعاد الطوفان إلى السطح ما حاولت التسويات السياسية أن تدفنه: أنّ المقاومة ليست فعل غضب، بل فعل وعي، وأنّ الوحدة ليست شعاراً تنظيمياً بل قدراً وطنياً.
وهكذا، لم يعد الغياب موتاً، بل حضوراً آخر يسكن الوعي ويوقظ الذاكرة.
الوعي الجديد.. امتداد لروحه
على الصعيد الرسمي، تراجعت البوصلة وانشغلت بعض الأنظمة العربية بأزماتها الداخلية، تراهن على الصمت أو التطبيع، فيما انبعثت من الشارع العربي والعالمي لغةٌ جديدة تستلهم روح المقاومة القديمة.
من الرباط إلى بغداد، ومن القاهرة إلى صنعاء، هتفت الجماهير باسم فلسطين كأنها تُخاطب أبا عمّار شخصياً: "عدت إلينا، وإن لم تعد".
لقد خسر المطبّعون الرهان، وربحت الجماهير الوعي.
فالدم الذي يسيل في غزة ورفح والجنوب اللبناني أعاد للقضية حضورها الكوني، وأيقظ في الأمة النبض الذي حاولت عقود من الخداع السياسي أن تُخمده.
وفي هذا الوعي الشعبي العارم، عادت روح عرفات لا في الأناشيد ولا في الصور، بل في وعيٍ جمعيٍّ أدرك أنّ الحرية لا تُمنح بل تُنتزع.
الذاكرة التي لا تموت
لم يمت ياسر عرفات، بل تغيّر شكل حضوره في الوجدان.
تحوّل من قائدٍ يُمسك بالبندقية إلى رمزٍ يُمسك بالضمير الجمعي للأمة.
وفي زمن الطوفان، كأنّ الغياب الذي فُرض عليه قبل عقدين لم يكن غياباً في الحقيقة، بل بوابةً لعودةٍ أعظم... عودة الوعي.
فما تركه أبو عمّار لم يكن تنظيماً ولا سلطة، بل إرثاً من الوعي المقاوم الذي ما زال يفيض في وجدان الأمة جيلاً بعد جيل.
ستظلّ كوفيّته ترفرف فوق رؤوس الأجيال كرايةٍ لم تُنكّس، وصوته يهمس في الذاكرة الفلسطينية:
"نم قرير العين يا أبا عمّار، فما زالت الثورة حيّة، وما زال في الأمة قلبٌ ينبض باسم فلسطين".