الكيان الإسرائيلي وحلم الاستقلال الاستراتيجي

تعكس الحاجة الإسرائيلية الدائمة إلى الدعم العسكري والمالي العالمي، وحتى بالجنود المرتزقة، عمق أزمة قضية الاستقلال، وقد تأكد بشكل قطعي وجود عشرات الآلاف من المرتزقة في صفوف "الجيش" الإسرائيلي.

0:00
  • كانت
    كانت "إسرائيل"، وما زالت وستبقى، رأس حربة المشروع الغربي.

كانت "إسرائيل"، وما زالت وستبقى، رأس حربة المشروع الغربي، كما هي الطفل المدلل أميركياً، ولكن هذا الامتياز النادر يبقيها دون القدرة على تحقيق طموح الاستقلال الاستراتيجي، ويجعلها أكثر من ذي قبل بحاجة ملحة إلى تبنّي خطة استباقية لاستعادة هذا الاستقلال الاستراتيجي الذي تبيَّن فقدانه بشكل أوضح بعد السابع من أكتوبر. هذا رأي الباحث الإسرائيلي يوئيل فيشمان، وهو ضابط سابق في "الجيش" أيضاً.

ما دلالات هذا القصور في تحقيق الاستقلال؟ يرى فيشمان أن الاعتماد الإسرائيلي على أميركا أكثر من اللازم، وخصوصاً في المعدات العسكرية التي تصل كهبات، ومن شأن أي مواجهة واسعة مع حزب الله أن تحرق كمية هائلة من المعدات والذخيرة في فترة زمنية قصيرة للغاية، ويمكن، بحسب فيشمان، أن تجر إيران بشكل مباشر إلى الحرب، وهو بمجمله يعكس عقم الشعور بالاستقلال وانفراط حقيقته.

ما لم يقله فيشمان قاله وزير الحرب السابق وزعيم حزب إسرائيل بيتنا المعارض أفيغادور ليبرمان، وهو يطلق خطة أمنية عمادها إقامة 5 ألوية دبابات إضافية، والتحرك لإنتاج المزيد من الذخيرة في داخل "إسرائيل"، لتقليل الاعتماد على دول العالم، لكن وزير الحرب الحالي يوآف غالانت تفاخر بعد عودته من أميركا، وعقب المجزرة في مواصي خان يونس، بهدف اغتيال القائد محمد ضيف بحسب زعمه، بأن الهجوم تم بطائرةF35  الأميركية الصنع باستخدام 8 قنابل تزن الواحدة 2000 رطل، وهي أيضاً قنابل أميركية.

يأتي تناول أزمة غياب الاستقلال الاستراتيجي، من قبل الباحثين والسياسيين وحتى العسكريين، في ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي حرب تتصاعد على امتداد الضفة وشمال فلسطين، لتعيد طرح مشكلة المشروعية من جهة، كما مشكلة الغربة من جهة أخرى، في ظل عجز إسرائيلي متصاعد عن مواجهة التحديات، رغم النجاحات الأمنية والعسكرية التي تحققها ببعض الاغتيالات النوعية على امتداد ساحات الحرب، إضافة إلى قدرتها على القتال للشهر العاشر على التوالي وتحمل الخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية، مع تعمّق عزلتها الدولية والشعبية.

إصرار الكيان العبري على مواصلة الحرب على غزة يأتي في المقام الأول كمعطى سياسي، وليس عسكرياً، في ظل طموحات نتنياهو الشخصية والحزبية بالبقاء في سدة الحكم والنجاة من المحاسبة، فالعسكر باتوا منهكين. ولعل ما تكشّف في مداولات المحكمة الإسرائيلية العليا عن النقص الحاد في الدبابات والآليات، بعد تدمير عدد هائل منها في غزة والشمال في مواجهة لبنان، وحتى في الضفة، ما يشير إلى توجهات الجيش نحو أولوية استعادة أسراه عبر صفقة سياسية، ولو أدى ذلك إلى وقف الحرب.

ويعيد طرح أزمة غياب الاستقلال في دولة تركز أكثر من غيرها على هذا الاستقلال باحتفالات سنوية مهيبة تعطيها بعداً دينياً، ما يضع علامة سؤال كبيرة على حقيقة هذا الاستقلال وما يسنده من رؤية دينية، وخصوصاً أن الاستقلال ثمرة سياسية ليس لها علاقة بالدين، حتى في أميركا وبريطانيا، رغم محاولة إضفاء بعض جوانب البركة المسيحية في نشأة زعماء هذه الدول وتعميدهم، إلا أن الكيان الإسرائيلي يربط أصل وجوده بالعقيدة الدينية اليهودية والنظرية السياسية الصهيونية المنطلقة من تأصيل ديني وإن مزعوم.

 وكان انعدام الشعور بالاستقلال قد طفح غداة هجوم الوعد الصادق الإيراني في نيسان الماضي، عندما هرعت أميركا، ومعها دول غربية وعربية عديدة، للتصدي لما أطلق عليه ليلة المسيرات، وقد ظهر الكيان العبري في أوج عجزه، ليس فقط في عدم القدرة على احتواء الهجوم المعلن عنه صراحة عبر مسافات بعيدة ودون استخدام الصواريخ الفرط صوتية وما شابه، ولم يكن ثمة عنصر مفاجأة، كالحال مع السابع من أكتوبر، إنما أيضاً في الامتناع عن الرد ضد إيران، ثم الانكفاء الإسرائيلي عن حرب الظل الهجينة مع إيران منذ سنوات، وإن بقي جانب منها، ولكنه بشكل طفيف.

تعكس الحاجة الإسرائيلية الدائمة إلى الدعم العسكري والمالي العالمي، وحتى بالجنود المرتزقة، عمق أزمة قضية الاستقلال، وقد تأكد بشكل قطعي وجود عشرات الآلاف من المرتزقة في صفوف "الجيش" الإسرائيلي.

وبقدر ما تشير هذه الأزمة إلى غياب الاستقلال، فإنها تعكس في بعض جوانبها قوة الكيان العبري في قدرته على تجنيد الغرب وأذنابه لخدمته، بحسب ما يرى كثيرون، ولكن ذلك بمجمله لا يأتي في سياق خدمة اليهود أو دولة الكيان، باعتبارهم شعب الله المختار مثلاً، أو أنهم أبناء الله وأحباؤه، أو أنهم الديمقراطية الأرقى في العالم، بقدر ما هو تأكيد على طبيعة المشروع الذي يمثله هذا الكيان العسكري، لكونه رأس حربة متقدماً للغرب في قلب العالم الإسلامي لضمان ضعفه وتفكّكه. 

ولعل أزمة تجنيد الحريديم، وخصوصاً بعد فتوى الحاخام الأكبر يتسحق يوسف للشباب الحريدي بتمزيق أوامر الاستدعاء للجيش، وأنَّ دولة إسرائيل الاستي تقف ضد التعليم التوراتي لا تستحق البقاء، بحسب قوله سابقاً، وأنهم قد يضطرون إلى الهجرة خارجها، ما يبدد وهم الاستقلال الإسرائيلي، والحديث هنا عن طائفة يهودية تقليدية تمثل نسبتها 15% من مجموع اليهود الإسرائيليين، يسندها حزبان كبيران هما شاس وديغل هتوراه، وخصوصاً أنهما ضمن الائتلاف اليميني الحاكم.

تمثّل حالة العجز عن تجنيد الشباب اليهودي الحريدي المقيم في القدس و"تل أبيب"، مع اللجوء إلى المرتزقة الدوليين، مشكلة مزدوجة للجيش باعتبار قداسته المزعومة كمكون أساس للدولة، ما يحطم أساسات الاستقلال السياسي المبني على تأصيل ديني، ويدفع هذه الأزمة بكل أبعادها إلى السطح، ليكون لها مع غيرها أثر حادّ في تعميق الشرخ الداخلي، وهو شرخ آخذ بالاتساع، وخصوصاً مع تصاعد الحرب في تعدد جبهاتها.