المسألة الشيعية: قضية وطنية لا طائفية
يقع على عاتق اللبنانيين جميعاً، ولا سيما من هم في موقع القرار، أن يبيّنوا لـ "رجل الأعمال" هذا أنّ المناطق الاقتصادية ومشاريع الاستثمار لا تُعمي الجنوبيين عن حقائق الجغرافيا والتاريخ.
-
هذا الشعب، وهذه الطائفة، هم لبنانيون أصيلون، لا يقاتلون نيابة عن أحد.
يبدو واضحاً أنّ الطائفة الشيعية في لبنان تتعرّض لنوعين من الحملات. النوع الأول أشار إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري في كلمته الأخيرة، حين قال إنّ هناك من يقود "حملات من التنمّر السياسي والشتم والشيطنة والتحقير بشكل ممنهج ضدّ طائفة مؤسسة للبنان". أما النوع الثاني فيعتمد على الخداع والنفاق، حيث يُطلق كلاماً ظاهره معسول ولكنه يخفي مشاريع صاغتها عقول شيطانية.
ويُعدّ الموفد الأميركي توم برّاك أبرز من اعتمد هذا النوع الثاني من الحملات. فقد صاغ تصريحه الذي توجّه من خلاله مباشرة إلى الطائفة الشيعية، مدّعياً أنّ نزع السلاح لا يستهدفها، وداعياً إياها إلى تحقيق مكاسب مقابل نزع السلاح، في ترجمة واضحة لهذا النهج.
لا مفاجأة في كلام برّاك؛ فهو تلميذ نجيب في المدرسة السياسية والإعلامية الأميركية التي تقوم على الخداع والنفاق والتضليل. وقد اتخذت هذه المدرسة أبعاداً خاصة مع أداء الرئيس الأميركي ترامب، الذي يعتمد على رجال أعمال لأداء مهام سياسية مثل تلك التي كُلّف بها برّاك. عند هؤلاء، كلّ شيء قابل للبيع والشراء والمساومة، وعرض الرشى مقابل السير في ركب الهيمنة الأميركية في المنطقة.
لكن ما يميّز هذا المنهج القائم على الصفقات هو الجهل المطبق بالتاريخ والجغرافيا، وخصائص الشعوب والفئات والمكوّنات.
من المؤكّد أنّ برّاك، الذي قال إنّ نزع سلاح حزب الله يصبّ في مصلحة الشيعة، محاولاً إظهارهم وكأنهم حالة خاصة تعاني من مشكلة خاصة، لا يدرك أنّ الشيعة في لبنان تبنّوا تاريخياً القضية الوطنية اللبنانية وقضايا الإقليم في السيادة والاستقلال والتحرّر.
ويجهل برّاك أنّ الشيعة مكوّن تاريخي في لبنان، وفي المحيط العربي والإسلامي، وأنهم كانوا ولا يزالون جزءاً لا يتجزّأ من قضاياه، وشريكاً في كتابة وصناعة تاريخه وحاضره ومستقبله، على قاعدة أنّ المنطقة يجب أن تكون مستقلة عن أيّ إرادة خارجية، وتنتج بذاتها وإرادتها شكلها وحريتها وسياساتها ومصالحها.
وقد واجه الشيعة منذ القدم كلّ معتدٍ في المنطقة، حيث قاموا بثورة العشرين في العراق، ونظّموا في جبل عامل مقاومة ضدّ الانتداب الفرنسي، تكاملت مع ثورة جبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش، وثوّار دمشق، وثوّار الساحل السوري مع الشيخ صالح العلي، وثوّار فلسطين في مواجهة الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني.
كلّ ما سبق يؤكّد أنّ الشيعة اللبنانيين اعتبروا قضيتهم مسألة وطنية شاملة، خصوصاً بعد أن وضعتهم الظروف الجغرافية في الخط الأول للمواجهة وعلى تماس مباشر مع التهديد الصهيوني منذ ما قبل تأسيس لبنان الكبير.
في تلك المرحلة، دفع جبل عامل ثمناً باهظاً، حيث فصلت عنه خرائط سايكس بيكو "القرى السبع"، وخسر الجنوبيون جزءاً كبيراً من قدرتهم الاقتصادية، من جرّاء مصادرة أراضيهم في سهل الحولة، وحرمانهم من مصادر رزقهم في بحيرتي الحولة وطبريا، وفقدان خطوط تجارتهم مع صفد وعكا وحيفا.
ومع ذلك، لم يتردّد الشيعة في مقاومة عوامل استهداف وجودهم في لبنان، معتمدين على قدراتهم الذاتية. وعند تأسيس دولة لبنان الكبير، رأوا في ذلك فرصة للاعتماد على الدولة الفتية لحفظ حقوقهم الوطنية.
أطلق الشيعة العديد من النداءات التي طالبت الدولة بتولّي مسؤولياتها والقيام بواجباتها تجاههم، إلا أنهم تعرّضوا سريعاً لخيبة أمل كبيرة بسبب تقاعس الدولة عن أداء واجبها الوطني، وعدم حزمها في الدفاع عن أرضها ومواطنيها، وهو ما عبّر عنه رجال الدين الشيعة في تلك المرحلة.
وتظلّ الرسالة التاريخية التي وجّهها الإمام عبد الحسين شرف الدين إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري شاهدة على هذا الموقف، حيث قال:
"حسبنا الآن نكبة جبل عامل في حدوده المتاحة ودمائه المباحة، وقراه وقد صيح فيها نهبا، وأطفاله وقد تأودت رعبا، وقد استمر به الفتك إلى ما هناك من هلاك الحرث والزرع، هذا الجبل المرابط بدفع جزية الدم لشذاذ الآفاق من كلّ من لفظته الأرجاء ونبذته الأرض والسماء... هذا الجبل العريق تُفرض عليه الذلة والمسكنة، ممن ضربت عليهم الذلة والمسكنة في سحق التاريخ. هذا الجبل الذي يقوم بما عليه من واجبات ولا يعطى ما له من حقوق، كأنه الشريك الخاسر يدفع الثمن ويُحرم من المكاسب.
فإن لم يكن من قدرة على الحماية، أفليس من طاقة على الرعاية".
إنّ نصّ الإمام شرف الدين يصلح اليوم كرسالة موجّهة من كلّ جنوبي إلى السلطة اللبنانية، إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الحاليّين، الذين إذا افترضنا عدم قدرتهم على الحماية من العدوان واستعادة الأرض، فهل هم عاجزون أيضاً عن إعادة الإعمار وتعويض المتضررين من العدوان؟
أما العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية فيذكر في كتابه المنشور عام 1947 "الوضع الحاضر في جبل عامل":
"لبنان أصبح دولة، وجبل عامل مستعمرة من مستعمراتها؛ لغيرها الأغنام وعليها دفع الغرامات، لغيرها المدارس والمستشفيات والطرقات وعليها الضرائب والنفقات، لغيرها الصحة والعلم ولها الجهل والأمراض، لغيرها الحدائق الذهبية ولها المستنقعات الراكدة والأشواك الدامية، لغيرها الملاهي والمقاصد ولها التعب والجوع والعراء".
وفي موقف آخر، يؤكّد العلّامة مغنية ضرورة امتلاك عناصر القوة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، قائلاً:
"لا حياة إلا للفدائي المستميت، وقد دلتنا التجارب أنه لا حقّ في الأمم المتحدة ولا في مجلس الأمن إلا للقوة، وأنه لا حياة للإنسان في القرن العشرين، خاصة في الشرق الأوسط وبوجه خاص في العالم العربي، إلا للفدائي المستميت".
ويضيف: "إنّ إسرائيل تجيب على عمل الفدائيين بالانتقام من الأبرياء، ونحن نقول: فليكن إذا كان هذا ثمناً لخراب في إسرائيل وطريقاً لانتصارنا عليها".
أما العلّامة السيد علي مهدي إبراهيم، المعروف بدعمه لثورة التبغ في النبطية عام 1973، فأصدر بياناً عام 1967 يحمل معاني عميقة، قال فيه:
"إننا باسم الطائفة الشيعية في لبنان، هذه الطائفة الداعمة الراسخة للوطن والتي تواجه خطوط النار في الجنوب مع الصهيونية الغاضبة، نطالب المسؤولين في الدولة والوطن بأن يسارعوا، من دون رياء أو تردّد أو إبطاء، إلى اتخاذ قرار حاسم بتدريب جميع شباب الطائفة في الجنوب على استعمال السلاح بواسطة مدرّبين من جيشنا الباسل، حتى إذا أزفّت الساعة المرتقبة، يكون الجنوب كلّه قلعة منيعة وبركاناً متفجّراً في صدور المعتدين الغزاة. ويكون شباب الطائفة جيشاً احتياطياً يساند الجيش اللبناني المغوار، يشدّ أزره ويحمي ظهره".
ويضيف العلّامة إبراهيم: "إنّ هذا العمل وحده كفيل بأن يجعل المواطن يعيش القضية واقعاً وفعلاً، دون أن يجترها لغواً وهذراً، ويعاينها سلوكاً وعملاً دون أن يتهرّب من مواجهتها ضعفاً وخوراً. كما أنه يجعل العدو يحسب ألف حساب قبل أن يعتدي على حدودنا".
ويختم بالقول موجّهاً كلامه إلى أبناء الجنوب: "اضغطوا على المسؤولين ليستجيبوا إلى مطالبكم، فإنّ القضية قضية وجود وبقاء أو فناء. فأثبتوا أنكم جديرون بوطنكم، فإنّ موتاً في عز خير من حياة في ذل وعجز".
إنّ المتأمّل في خطاب علماء الدين الشيعة في لبنان، منذ ما قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي، مروراً بمرحلة الاستقلال، وصولاً إلى اجتياح عام 1982، يلحظ بوضوح أنّ المنطق الحاكم لدى الشيعة كان ـــــ ولا يزال ـــــ يقوم على أنّ مقتضى الوطنية هو الدفاع عن البلاد وحمايتها. فالقضية بالنسبة إليهم هي قضية سيادة واستقلال، لا قضية مكاسب طائفية خاصة.
وإذا كان الموفد الأميركي يجهل هذا التاريخ، وغير مدرك لحقيقة أنّ الشيعة اللبنانيين لم يحملوا السلاح طلباً لموقع في السلطة، أو سعياً لحكم ذاتي، أو طمعاً في مكاسب اقتصادية كما يفعل كثيرون من المتعاونين مع واشنطن في العالم والإقليم، فما عذر أهل السلطة في لبنان، وهم الذين عايشوا هذا الواقع عن قرب، ويُفترض بهم أن يكونوا أكثر إدراكاً له؟
إنّ هذا الواقع يحمّلهم مسؤولية واضحة في أن يشرحوا لهذا القادم من وراء البحار أنّ قضية الشيعة في لبنان هي قضية تحرير الأرض من الاحتلال، ووقف العدوان، وإزالة التهديد المستمر منذ نشوء الكيان الإسرائيلي الذي لم يكفّ عن التربّص والتوسّع والطمع بلبنان.
يقع على عاتق اللبنانيين جميعاً، ولا سيما من هم في موقع القرار، أن يبيّنوا لـ "رجل الأعمال" هذا أنّ المناطق الاقتصادية ومشاريع الاستثمار لا تُعمي الجنوبيين عن حقائق الجغرافيا والتاريخ، وأنّ هذه الإغراءات لا يمكن أن تسقط وطنيتهم الحريصة حتى على آخر شجرة في أقصى نقطة من الحدود.
كما يجب أن يعرف حامِل الرسائل أنّ هذا الشعب، وهذه الطائفة، هم لبنانيون أصيلون، لا يقاتلون نيابة عن أحد، ولا هم مرتزقة لأحد، بل قضيتهم لبنانية وطنية بالكامل.
أما أن يصمت بعض المسؤولين، أو يسايروا خطابه ومطالبه وأوراقه، فذلك خروج فاضح عن مقتضيات الوطنية، يفقدهم شرعيّتهم نتيجة تنكّرهم لواجب حماية البلاد، ويجعل أفعالهم طعناً في الميثاق الوطني والدستور، ويعرّضهم للمساءلة والمحاسبة، شعبية كانت أم قانونية.