المشروع القومي العربي لم يكن السبب في انهيار الدولة العثمانية

شكّلت القومية العربية منذ بدايتها استجابة لتحدّي مواجهة تداعيات الترهّل الذي حصل في الدولة العثمانية، ولم تكن سبباً لها، كما أنّ القومية التركية كانت استجابة لعوامل الترهّل التي اعترت الدولة العثمانية.

  • الأقطار العربية في ظلّ الحكم العثماني.
    الأقطار العربية في ظلّ الحكم العثماني.

يتعرّض الفكر القومي العربي اليوم لهجمة كبيرة بنتيجة الهجمة الإمبريالية الأميركية والصهيونية على بلادنا وسعي الولايات المتحدة و"إسرائيل" لضرب الهوية العربية كجامع لشعوب المنطقة تمهيداً لتقسيم الأقطار العربية وفقاً لكيانات إثنية وطائفية وعشائرية.

وعند الحديث عن الفكرة القومية وتحديداً القومية العربية هنالك هجوم كبير تتعرّض له هذه الفكرة من قبل الغرب وبعض أدواته أو فلنقل بعض التيارات الفكرية التي يدعمها الغرب بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن ضمن هذه الهجمات اتهام القومية العربية بطعن الدولة العثمانية في الظهر والتسبّب في انهيارها. وفي هذا الإطار تقف التيارات الإسلامية خلف هذه الاتهامات مدعومة من تركيا التي ترعى الكثير من هذه الحركات. 

الأقطار العربية في ظلّ الحكم العثماني 

هنا تكمن أهمية مراجعة التاريخ الحديث للدول العربية أو للعرب بشكل عامّ وهي المرحلة التي تعود إلى أواخر القرن السادس عشر، وهذه المرحلة تميّزت بأنها شهدت تراجعاً في قوة وسطوة مصر التي كانت تعتبر الحاضنة أو آخر معقل أو مركز حضاري ريادي عربي بعد ألف عام من الريادة التي انتشرت مع الإسلام والتي تنقّلت ما بين عواصم ثلاث هي دمشق فبغداد فالقاهرة مع صلاح الدين والعهد الأيوبي ومن ثم العهد المملوكي في مصر ،والتي تميّزت أيضاً بوجود مراكز قرار أو ريادة ثانوية بالمقارنة مع هذه العواصم ولكن كان لها شأن كبير وهي القيروان والرباط وقرطبة، عدا عن مراكز قرار ثانوية أخرى تابعة لهذا المركز. 

فمع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر كانت هنالك تحديات يواجهها آخر مركز ريادة عربي وهو القاهرة بالاشتراك مع الشام، والذي تميّز بالتحدّي الذي طرحه الإسبان في البحر المتوسط والبرتغاليون في المحيط الهندي. هنا تبيّن عجز الدولة المملوكية عن مواجهة هذه التحدّيات ما جعلها عاجزة في النهاية عن الصمود أمام الضربة التي تلقّتها على يد الدولة العثمانية في العام 1516 وثم في العام 1517 ما أدى إلى خضوع الأقطاع العربية للحكم العثماني لقرون تالية. 

لقد كان البلقان والبحر الأسود والأناضول المحور الرئيسي للدولة العثمانية ما أدى إلى تهميش الأقطار العربية. ولقد ارتضت النخب في الأقطار العربية أن تكون تحت المظلة العثمانية بحكم أنّ هذه المظلة كانت حامية لها من التهديد الغربي، ولكن في الوقت نفسه كان هنالك نوع من سبات عميق دخلت فيه الأقطار العربية في الوقت الذي تميّزت فيه الدولة العثمانية بعدم الابتكار، بل بالسطوة العسكرية والسطوة التجارية في مرحلة من المراحل والتي ستتراجع بعد أواخر القرن السابع عشر بنتيجة تحوّل طريق التجارة بعيداً عنها خصوصا بعد توقيع الروس والصينيين لاتفاقية نيرشينسك في أواخر القرن السابع عشر، والتي حوّلت طرق التجارة المقبلة من شرق آسيا إلى السهوب السيبيرية فالبلطيق. 

هذا أدّى الى ضرب النخب التجارية العثمانية وترسيخ الإقطاع والذي سيترافق مع تعميم لا مركزية واسعة في الدولة العثمانية أدت عملياً إلى استقلال الكثير من الأقطار مع الحفاظ على ما يسمّى التبعية للتاج العثماني. ورغم ذلك فإنّ هيكل الدولة العثمانية كان لا يزال يبدو صلباً أو متماسكاً لحين تمّ توجيه ضربة خارجية له تجلّت بالدرجة الأولى بالهزيمة التي تعرّضت لها الدولة أمام الإمبراطورية الروسية في أواخر القرن الثامن عشر.

هذه الهزيمة أظهرت جلياً الضعف العثماني، بل إنّ الروس طرحوا المسألة الشرقية التي شكّلت عنواناً لمشروعهم لتقسيم الدولة العثمانية وقد بحثوا في ذلك مع فرنسا وبريطانيا، لكن بريطانيا التي كانت تعمّق احتلالها للهند، أرادت أن تحوّل الدولة العثمانية والدولة القاجارية في فارس والخانة الأفغانية إلى نوع من منطقة عازلة بينها وبين روسيا، بالتالي رفضت مشروع تقسيم الدولة العثمانية. 

التحديث لمعالجة عوامل الضعف 

هذا الضعف هو الذي طرح فكرة التحديث في الدولة العثمانية، أي محاولة إصلاح البنى المترهّلة في الدولة والتي اتخذت شكلاً من أشكال الفساد وترهّل البنى وعدم قدرة العسكر الإنكشاري أو العسكر المحترف على الدفاع عن الدولة. في هذا الإطار ستكون أول عملية تحديث في الدولة العثمانية هي من قبل السلطان سليم الثالث الذي حاول تحديث عرى الدولة، ولكنّ الدولة العميقة المتمثّلة بشبكة المصالح انتفضت ضده فقام الانكشارية بالانقلاب عليه وقتله وتنصيب ابن عمه سلطاناً بدلاً عنه. 

لقد شكّلت القومية العربية منذ بدايتها استجابة لتحدّي مواجهة تداعيات الترهّل الذي حصل في الدولة العثمانية، ولم تكن سبباً لها، كما أنّ القومية التركية التي نشأت بالتوازي مع القومية العربية كانت استجابة لعوامل الترهّل التي اعترت الدولة العثمانية وليس سبباً له كما يفسّر الإسلاميون. من هنا فإنّ ما جرى منذ بدايات القرن التاسع عشر، كان محاولة النخب العثمانية سواء كانت تركية أو عربية أو بلغارية أو صربية أو أرمنية... محاولة الإجابة عن أسئلة طرحها بالدرجة الأولى ضعف الدولة العثمانية وترهّل بناها من ناحية والتحوّلات الجارية في العالم من ناحية أخرى. 

من هنا فإنه في الوقت الذي كانت عملية بلورة فكرة قومية تجري ومحورها إسطنبول، كان هنالك مشروع لمواجهة الترهّل في الدولة يحاول أن يقدّمه محمد علي باشا في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان محور هذا الموضوع هو حاجة محمد علي باشا للجنود وحاجته لتجنيد الجنود من أبناء الفلاحين مستوحياً تجربة تجنيد أبناء الفلاحين في الثورة الفرنسية وما رافقها من بلورة الفكرة الوطنية الفرنسية. وهذا يفسّر لماذا الهوية المصرية هي هوية راسخة وقوية لأنّ مصر كانت أول بلد غير أوروبي تدخله مفاهيم الهوية الوطنية مع عناصرها المادية. 

بالتوازي مع ذلك فإنّ الهوية المصرية لم تكن منفصلة عن الهوية العربية، إذ إنه مع عملية التحديث ومع حاجة الدولة في ظل محمد علي باشا إلى تجنيد كوادر من الفلاحين مع انقطاع سبل شراء العبيد من وسط آسيا ومن القوقاز نتيجة التوسّع الروسي في تلك المناطق، فإنّ محمد علي كان عملياً مضطراً لتعريب المناهج، وهذا أيضاً ترافق مع تفعيل دور مصر لما لهذا الدور من امتدادات سواء كان ذلك في شمال أفريقيا من جهة، وفي السودان – وادي النيل من جهة ثانية، وفي البحر الأحمر من جهة ثالثة، وفي بلاد الشام من جهة رابعة. من هنا فإنّ الوطنية المصرية منذ اليوم الأول كانت متماهية مع القومية العربية وغير مناقضة لها، بل رافعةً لها.

بالتوازي مع ذلك كانت هناك عقلية تحديث تجري في بلاد الشام ولكن من دون رعاية من سلطة مركزية، هذه العملية كانت تدخل عبر علاقات رأسمالية جنينية في إطار العلاقة ما بين الرأسمال الأوروبي، تحديداً الفرنسي، وبعض الفئات الاجتماعية المحلية سواء كانت فئات بورجوازية غالبيتها من الروم الكاثوليك. بالتالي فإنّ بعض النخب التي ارتبطت بعلاقات رأسمالية حديثة كانت أيضاً موضع طرح للأفكار الحديثة التي استلهمت منها بعض الأجوبة عن التساؤلات التي طرحت أمامها، علماً أنّ هذا لم يكن مقتصراً فقط على من احتك بالإرساليات الأجنبية أو بالمصالح الأجنبية من مسيحيين ومسلمين، بل هو أيضاً شكّل نتاجاً لعملية عميقة طرحتها النخب في الإدارة العثمانية سواء كان في إسطنبول أو في القاهرة أو في دمشق أو حلب أو غيرها من مناطق الدولة، ولكن الجدير بالذكر أنّ معظم هذا المخاض المستقل عن السلطة المركزية في الدولة كان جارياً في بلاد الشام. 

كانت هنالك عملية تحديث تجري ولكن بإدارة السلطة المركزية في إسطنبول، بالتوازي مع ذلك كانت التجربة في التحديث في الإدارة المصرية في ظل محمد علي باشا سابقة لتلك الجارية في إسطنبول، وعملية التحديث الجارية في بلاد الشام كانت ميزتها عن تلك الجارية في إسطنبول أو في القاهرة بأنها لم تكن تدار من مركز أو من إدارة مركزية في الدولة. وكان أبرز تحد في نتيجة الصراعات الخارجية أيضاً ما بين روسية وفرنسية وبريطانية تحديداً في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنه تمّ طرح مشروع المملكة العربية السورية في بلاد الشام وكانت نخب محلية قد طرحتها متشعّبة، فلم يكن بينها فقط المسيحيون كما يزعم الإسلاميون، بل كان من بينها نخب مسلمة من ضمنها مثلاً الأمير عبد القادر الجزائري وكثيرون من حوله، ومن بينها على سبيل المثال الشيخ أحمد عباس الأزهري في بيروت، لذلك فإنّ هذا المشروع كان محاولة للاستجابة للتحدّيات المطروحة في تلك المرحلة في إطار وعي النخب المحلية أولاً للترهّل في الإطار العثماني من جهة ومن جهة أخرى تحدّيات الهيمنة الخارجية ومحاولة طرح مشروع محلي "وطني" للأستجابة لها. 

مراحل انهيار الدولة العثمانية

في المحصّلة فإنّ انهيار الدولة العثمانية كان نتيجة مرحلة طويلة من الضعف والترهّل تفاقمت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع هزيمة الدولة العثمانية على يد روسيا في العام 1878 ما فتح المجال أمام استقلال رومانيا وصربيا واحتلال النمسا وهنغاريا للبوسنة والهرسك وحصول بلغاريا على حكم ذاتي موسّع تحوّل إلى استقلال كامل في العام 1908. وترافق ذلك مع انتزاع روسيا للسيطرة على أرمينيا الشرقية وكارس وباتوم.

وبعد أربع سنوات احتلت فرنسا تونس بعدما سبق واحتلت الجزائر في العام 1830، إضافة إلى المغرب الذي لم يكن جزءاً من الدولة العثمانية. أما بريطانيا فاحتلت مصر ووسّعت هيمنتها إلى السودان الذي لم يكن يوماً جزءاً من الدولة العثمانية. 

وفي العام 1911 احتلت إيطاليا ليبيا فيما خسرت الدولة العثمانية ألبانيا ومقدونيا خلال  حروب البلقان. أما في الجزيرة العربية فلقد كانت عمان سلطنة مستقلة عن الدولة العثمانية ودخلت تحت الحماية البريطانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعدما سبق للإمبراطورية البريطانية أن فرضت هيمنتها على شواطئ الخليج من رأس الخيمة إلى الكويت في العام 1821، وبعدما كانت قد احتلت عدن وحضرموت في العام 1839، علماً أنّ نجد لم تكن محكومة من الدولة العثمانية. 

في كلّ هذا، لم يكن القوميون العرب هم من تسبّب بفقدان كلّ هذه الاقطار، أما ما جرى خلال الحرب العالمية الأولى من ثورة عربية ضدّ حكم جمعية الاتحاد والترقّي فكان أحد أسبابه هو محاولة القوميين الأتراك فرض هوية طورانية على العرب، علماً أنّ هزيمة الدولة العثمانية وحلفائها في الحرب لم تكن نتيجة الثورة العربية الكبرى بل كانت نتيجة تدخّل الولايات المتحدة إلى جانب فرنسا وبريطانيا من جهة وبنتيجة النصر الذي حقّقه الفرنسيون على بلغاريا في خريف العام 1918، ما قطع سبيل التواصل بين ألمانيا من جهة والدولة العثمانية من جهة أخرى، والذي كشف الجبهة الجنوبية لدول لمحور وأجبرها على الاستسلام.