المنظمات الأممية على تحذيراتها فقط.. ما الذي يؤخر إعلان "مجاعة" القطاع؟

سياسة التجويع التي تنتهجها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين تمثل إحدى الأوراق التي تحاول من خلالها حكومة نتنياهو الضغط على فصائل المقاومة في المفاوضات الجارية بوساطة عربية وغربية.

  • هل تعطي المنظمات الأممية مزيداً من الوقت لآلة الحرب الإسرائيلية؟
    هل تعطي المنظمات الأممية مزيداً من الوقت لآلة الحرب الإسرائيلية؟

مع انهيار الاقتصاد الغزاوي بشكل شبه كامل منذ الأسابيع الأولى للحرب الإسرائيلية، وتالياً اضطرار جميع سكان القطاع إلى الاعتماد كلياً على المساعدات الغذائية الأممية والدولية للبقاء على قيد الحياة، فإن تأخر المنظمات الأممية في الإعلان رسمياً عن دخول القطاع في مرحلة المجاعة الشديدة وتحديد المسؤول المباشر عن ذلك يعطي مزيداً من الوقت لآلة الحرب الإسرائيلية لتكمل ما بدأته من قتل وتدمير وتخريب لما تبقى من مقومات الحياة. 

هذا التأخر الأممي يأتي في أعقاب تحذيرات واضحة صادرة عن مسؤولين وتقارير أممية، فمثلاً قبل ثلاثة أشهر من الآن حذرت سيندي ماكين المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي من أنه" إذا انتظرنا حتى يتم إعلان المجاعة، فسيكون الأوان قد فات، وسيموت آلاف آخرون". كما أن تقرير "بؤر الجوع الساخنة" الصادر عن الأمم المتحدة بداية الشهر الحالي توقع " أن يواجه أكثر من مليون شخص – نصف سكان غزة – الموت والجوع (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي) بحلول منتصف يوليو". 

قد تكون تصريحات بعض المسؤولين الأمميين والدوليين في نظر البعض متقدمة بعض الشيء مقارنة بالحروب السابقة، بيد أنها فعلياً متأخرة كثيراً عما يشهده الواقع "الغزاوي" من مآسٍ تفوق التصور وقدرة العقل على التخيل. ثم، هل يحتاج المجتمع الدولي والمنظمات الأممية إلى إطلاق الناشطين على شبكات السوشيال ميديا "هاشتاغات" للتحرك ومحاولة الضغط على "إسرائيل" للسماح بإدخال المساعدات الغذائية وبكميات كافية؟

سياسة ممنهجة

على خلاف ما كان يبشر به الرئيس الأميركي جو بايدن خلال الأسابيع القليلة الماضية من أن قطاع غزة سيحصل على كميات أكبر من المساعدات الإنسانية بُعيد قتل القوات الإسرائيلية سبعة عاملين أجانب ينتمون إلى مؤسسة "المطبخ المركزي العالمي"، فإن الأسابيع الأخيرة أثبتت العكس تماماً، إذ عوضاً عن تدفق قوافل المساعدات عبر المعابر التي أعلنت "إسرائيل" عن فتحها بشكل مؤقت، فقد زاد الخناق على القطاع أكثر فأكثر لدرجة أن الكثير من المدنيين استشهدوا بفعل نقص الغذاء والدواء، وما تبقى منهم يعانون الهزال والضعف ومصارعة البقاء في مقاربة حقيقية لما حدث في الصومال عام 2011 عندما مات ربع مليون إنسان جوعاً، والعالم بدوله، التي نهبت ثروات أفريقيا، وبمؤسساته، التي تعتاش على أزمات الشعوب، تتفرج.

وما يعزز من فرضية المشاركة الأميركية في عملية تجويع الفلسطينيين أن طائراتها التي تجوب القطاع عشرات المرات يومياً على علم دقيق أن الحديث الإسرائيلي عن فتح عدة معابر لإدخال المساعدات الإنسانية ليس سوى نفاق وخداع للرأي العام الدولي. 

كما أن الميناء البحري الذي أعلن الجيش الأميركي عن إنجازه قبل بضعة أشهر بغية إيصال المساعدات بحراً إلى القطاع لم يعمل كما روّج له، إلا إذا كان ذلك الجيش قد وصل إلى مرحلة بات فيها عاجزاً عن إنشاء ميناء بحري مؤقت، أو أن هناك أهدافاً أخرى لهذا الميناء!

سياسة التجويع التي تعمل حكومة نتنياهو على تنفيذها بتواطؤ ومشاركة أميركية واضحة تقوم على ثلاث ركائز أساسية هي:

- تدمير وتخريب كل مقومات الاقتصاد الفلسطيني في القطاع على مختلف المستويات من تجريف الأراضي الزراعية إلى استهداف الأسواق بالصواريخ والمسيرات، فهدم المنشآت الصناعية والحرفية وتعطيل خطوط إنتاجها وسرقة الأموال والبضائع. الأمر الذي أفقد غالبية الأسر الفلسطينية مصدر رزقها، ارتفاع معدل البطالة إلى مستويات قياسية، والتسبب بنقص السلع والمنتجات المتاحة للاستهلاك. وتأكيداً لذلك، تشير آخر بيانات صادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني إلى أن الرقم القياسي لأسعار المستهلك في القطاع ارتفع من نحو 268.44 في شهر نيسان/ أبريل الماضي إلى نحو 365.69 في شهر أيار/مايو الماضي أي بنسبة زيادة أو تضخم قدرها 36.23%. 

- منع دخول قوافل المساعدات والإغاثة أو تقليل عدد الشاحنات المحمّلة بالمساعدات والتي يسمح لها بالدخول يومياً إلى القطاع، لاسيما بعد اقتحام القوات الإسرائيلية معبر رفح الحدودي واحتلاله وحرقه.

ووفقاً للتقديرات الأممية، فإن الحد الأدنى لعدد الشاحنات المفترض إدخالها إلى القطاع يومياً للحد من اتساع دائرة الجوع يجب ألا يقل عن 300 شاحنة، في حين أن عدد الشاحنات التي كانت تدخل قبل الحرب إلى القطاع يصل إلى نحو 500 شاحنة يومياً، وعليه فالتقديرات الأولية تشير إلى أنه في ضوء نسبة الدمار الهائلة التي لحقت بمحافظات القطاع ومدنه ومعدلات الفقر الكبيرة وانعدام الأمن الغذائي فإن عدد شاحنات المساعدة يجب ألا يقل عن 700-1000 شاحنة يومياً.

واللافت للاهتمام أن الرقم القياسي لأسعار المستهلك للمواد الغذائية والمشروبات الكحولية لم يزدد بين شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو السابقين إلا بنسبة 2.93%، والسبب في ذلك لا يتعلق بزيادة المعروض من المواد الغذائية كما قد يخيل للبعض، إذ إن عدد الشاحنات التي دخلت القطاع في الشهرين المذكورين كان قليلاً بدليل أن التقديرات الأممية تتحدث عن معاناة 1.1 مليون فلسطيني من "جوع كارثي"، وإنما السبب يكمن في انعدام القوة الشرائية لغالبية الأسر الفلسطينية، واعتمادها على ما تحصل عليه من مساعدات بين الفينة والأخرى.

- منع وصول الفلسطينيين إلى مصادر الغذاء والدواء من خلال استهدافهم بالقذائف والرصاص والمسيرات أثناء محاولتهم الوصول إلى شاحنات المساعدات أو المطابخ الأممية والدولية أو حتى أثناء بحث البعض منهم في الأراضي الزراعية عما يمكن أن يؤكل، وما أكثر المجازر التي ارتكبت في هذا السياق خلال الأشهر الماضية وذهب ضحيتها مئات الأشخاص من منتظري المساعدات كمجزرة شارع الرشيد في شباط/فبراير الماضي، مجزرة دوار الكويتي في شهر آذار/مارس الماضي، مجزرة الطحين... وغيرها.

لذلك، ليس عبثاً أن يتزامن العمل على الركائز الثلاث في وقت واحد ومنسق، وأن تغض الولايات المتحدة الطرف عن كل ذلك وتأخرها في إنجاز مشروع الميناء المؤقت، وأن يهاجم المستوطنون شاحنات المساعدات وتخريب محتوياتها من السلع الغذائية والمواد الطبية وإحراقها.

الشارع المناصر

من دون أدنى شك، فإن سياسة التجويع التي تنتهجها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين تمثل إحدى الأوراق التي تحاول من خلالها حكومة نتنياهو الضغط على فصائل المقاومة في المفاوضات الجارية بوساطة عربية وغربية من ناحية، والقيام بعملية "تجفيف" ديمغرافي لمناطق معينة من قطاع غزة لضمان سيطرتها وبقاء قواتها العسكرية والأمنية فيها من ناحية ثانية.

وما دامت الإدارة الأميركية على علم بهذه السياسة ومتواطئة معها أيضاً، وما دامت الأنظمة العربية عاجزة عن اتخاذ موقف مساند، ومناصر عملياً لسكان القطاع في مواجهة ما يتعرضون له من قتل وتجويع، فإن الخيار المتاح يبقى في استنهاض الضمير العالمي ودفع الشعوب الحرة إلى التظاهر والضغط على حكوماتها لوقف "موقعة التجويع الإسرائيلية، وإنقاذ أطفال ونساء وشيوخ فلسطين من العذاب والموت جوعاً وعطشاً.

 وهذا ما تعمل عليه بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية التي لا تزال على عهدها مع القضية الفلسطينية ومناصرتها لحقوق الشعوب، وما يعمل عليه أيضاً بعض الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية... عسى عندئذ أن تتجرأ الأمم المتحدة، وتعلن رسمياً أن القطاع المحاصر والمدمر بات منطقة مجاعة بفعل إسرائيلي متعمّد.