الوجه الحقيقي لأوروبا

في غزّة سقط القناع، وظهر وجه أوروبا الاستعماري الحقيقي، فالمجرمون لا يتورعون عن دعم المجرمين من أشباههم، وهم أوفياء لتاريخهم الاستعماري.

  • في غزّة سقط القناع، وظهر وجه أوروبا الاستعماري الحقيقي.
    في غزّة سقط القناع، وظهر وجه أوروبا الاستعماري الحقيقي.

أسفرت أوروبا عن وجهها الاستعماري قبل أيام عندما منعت الطبيب الفلسطيني-البريطاني الجنسية من دخول فرنسا؛ بحجة وجود مذكرة ألمانية تمنعه من دخول أراضي الاتحاد الأوروبي.

المقارنة بين هذا السلوك والطريقة التي تستقبل بها فرنسا وأراضي الاتحاد الأوروبي مرتكبي المجازر من الصهاينة، ودفاعها المستميت عنهم وعن الجرائم التي يرتكبونها، ليست مقارنة مجدية، لأن واحداً من أهم الدروس التي تعلّمناها من معركة "طوفان الأقصى"، أن المشروع الرأسمالي الإمبريالي في فلسطين، ليس مشروعاً يهودياً، بل هو مشروع أسّسته وترعاه الرأسمالية العالمية ليكون أداتها في تنفيذ سياساتها الاستعمارية في منطقتنا.

أي فكرة أخرى ليست سوى وهم يحاول أصحابه تسويقه لتقزيم طبيعة الصراع الدائر في عالم اليوم، وتحويله إلى مجموعة من الصراعات المحلية، وهو في حقيقته صراع بين الشعوب التواقة إلى الحرية والاستقلال، وقوى النهب الاستعماري الرأسمالي. 

أوروبا التي حاولت التعمية على تاريخها الاستعماري، وإظهار نفسها أنها حاضنة الثقافة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تستطع عبر تاريخها مقاومة إغراء المشاركة في حملات الإبادة الجماعية في أي مكان في العالم.

لعلنا نعرف جيداً ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي في الجزائر من جرائم بحق الثوار، لكنها لم تتوقف عند هذا الحد. ففي تاريخ 13 شباط/فبراير 1960، قامت فرنسا بتفجير أول قنبلة ذرية، في إطار العملية التي تحمل اسم "جربواز بلو" (اليربوع الأزرق)، في سماء صحراء رقان، ما تسبّب في كارثة طبيعية وبشرية، وبحسب الخبراء، يُعادل هذا التفجير الذي تتراوح قوته بين 60 و70 ألف طن من المتفجرات خمسة أضعاف قنبلة هيروشيما في اليابان.

بلغ مجموع ضحايا التجارب النووية الفرنسية في الجزائر بين عامي 1961 – 1966 نحو 42 ألف مواطن، مع استمرار الآثار المدمرة للتلوث الشعاعي على السكان والبيئة حتى يومنا هذا. لكن جمهورية العقد الاجتماعي والثورة الفرنسية أصدرت قانوناً عام 2010 باسم "قانون موران" يحرم الضحايا الجزائريين من المطالبة بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم نتيجة تلك التجارب النووية.

تمتلك ألمانيا، صاحبة قرار منع غسان أبو ستة من دخول أوروبا، سجلاً حافلاً بالمجازر. رغم كل الضجة التي تثار حول قصة الهولوكوست وتوظيفها سياسياً، فإن تاريخ ألمانيا الاستعماري يحفل بالمجازر وقصص الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في مستعمراتها في أفريقيا. بين عامي 1905 و1907 قامت ثورة في جمهورية تنزانيا عرفت بثورة "ماجي ماجي" تصدى لها الجيش الإمبراطوري الألماني مزهقاً أرواح 300 ألف مواطن تنزاني، وهو ما يعادل ثلث سكان تلك البلاد. في توغو، قام العالم الألماني، الحائز على جائزة نوبل في الطب، روبرت كوخ بتجربة لقاح الجدري على المواطنين التوغوليين، ما أدى إلى وفاة 10% منهم، وأجرى تجارب للسيطرة على مرض النوم باستخدام مادة الزرنيخ متسبباً بوفاة الآلاف من المواطنين الأفارقة، وإصابة آلاف آخرين بالعمى. 

تتصدر بلجيكا تاريخ المجازر بما فعله الملك ليوبولد الثاني في الكونغو. حصلت بلجيكا على الوصاية على الكونغو بموجب قرارات مؤتمر برلين 1884. اشتهرت الكونغو بإنتاجها من المطاط الضروري لصناعة السيارات الأوروبية، وقامت بلجيكا بفرض حصة محددة من المطاط على كل مواطن كونغولي، تحت طائلة العقوبات القاسية. كانت نتيجة السياسة البلجيكية مقتل 10 ملايين مواطن، وقطع أيدي ملايين آخرين إلى درجة أطلق معها على الكونغو اسم "أرض الأيادي المقطوعة".

بعد انتشار أخبار الفظائع البلجيكية، قامت بلجيكا عام 1908 بضم الكونغو، بقرار من البرلمان وبدعم من بريطانيا وأميركا، علماً أن مساحة الكونغو 80 ضعف مساحة المملكة البلجيكية.

أما هولندا مقر محكمة العدل الدولية، فكانت أول الدول التي قامت بإنشاء مستعمرات في أفريقيا، واشتهر الهولنديون بتجارة العبيد، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن ثلثي العبيد الذين نقلوا إلى الأميركيتين خلال القرن السابع عشر كانوا بواسطة تجار هولنديين، واشتهر الهولنديون بالمجازر التي ارتكبوها ضد قبيلة "الخوي خوي" الأفريقية التي قتلوا معظم أفرادها وهم يعدون بالآلاف ليستولوا على أراضيهم، وينهبوا ثرواتهم. ساهم الهولنديون بفعالية في أكبر مذبحة إبادة جماعية تجري في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما وقف أفراد الكتيبة الهولندية موقف المتفرج من قتل 8700 بوسني في مدينة سربرنيتشا عام 1995، بل إن الجنود الهولنديين قاموا بطرد اللاجئين البوسنيين من داخل مواقعهم، رغم معرفتهم أن الموت ينتظرهم في الشارع.

قبل المجزرة، قامت القوات الهولندية بنزع سلاح سكان سربرنيتشا من البوسنيين، في سياق قرار للأمم المتحدة يقضي بسحب سلاح الطرفين البوسني والصربي، لكنها تركت 2000 جندي صربي بسلاحهم ودباباتهم يحاصرون المدينة، وادعت لاحقاً في التحقيق "المستقل" الذي أجرته الحكومة الهولندية أنّ المهمة كانت مستحيلة، ودانت جندياً هولندياً واحداً بتهمة إغلاق باب الكتيبة الهولندية في وجه البوسنيين الهاربين من المذبحة.

هذا جزء يسير من تاريخ أوروبا الاستعماري لم أتطرق فيه إلى دور بريطانيا، لأن المجال لا يتسع لسرد المجازر والمذابح التي ارتكبتها في كل مكان من العالم، بما في ذلك أميركا نفسها. لقد أقنعنا الأوروبيون والأميركيون بأن للإرهاب هوية وملامح شرق أوسطية، وجلدنا أنفسنا على مدى عقود، ورفع الكثيرون منّا شعار الديمقراطية الليبرالية كوسيلة تخلصنا من القمع والإرهاب الشرق أوسطين. 

في غزّة سقط القناع، وظهر وجه أوروبا الاستعماري الحقيقي، فالمجرمون لا يتورعون عن دعم المجرمين من أشباههم، وهم أوفياء لتاريخهم الاستعماري، فعبر التاريخ الحديث أينما بحثت أو قرأت عن جريمة حرب أو مجزرة إبادة جماعية، ستجد اليد الاستعمارية الرأسمالية وراءها. سقطت شعاراتهم البراقة من حرية رأي وديمقراطية، ولم تحتمل تلك الشعارات صوتاً واحداً، مثل صوت الدكتور غسان أبو ستة، يقدم شهادة عمّا اختبره خلال وجوده في غزّة.  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.