انعكاسات اتهام بكين بالتجسّس على العلاقات الصينية الألمانية

لماذا تم الإعلان عن التجسس الصيني بعد عودة المستشار الألماني من بكين؟ ولماذا تزامن إعلان ألمانيا عن التجسس مع اتهام بريطانيا مواطنين بالتجسس لمصلحة الصين؟ 

  •  اتهام الصين بالتجسّس لن يتوقف وستزداد حدته مع تصاعد المنافسة بينها وبين الدول الغربية.
    اتهام الصين بالتجسّس لن يتوقف وستزداد حدته مع تصاعد المنافسة بينها وبين الدول الغربية.

تتصاعد حرب التجسس بين الصين والدول الأوروبية؛ فبعد بريطانيا ادَّعت ألمانيا مؤخراً إلقاء القبض على مواطنين ألمان يتجسسون لمصلحة الصين، من بينهم مساعد نائب ألماني في البرلمان الأوروبي، أبرز مرشحي حزب" البديل من أجل ألمانيا" اليميني الداعم لروسيا والصين للانتخابات الأوروبية المقبلة، الأمر الذي نفته الصين بشدة، ورأت أنه يأتي في سياق محاولة تشويه الصين والتشهير بها وتعكير التعاون بينها وبين أوروبا.

تأتي الاتهامات الألمانية بعد أسبوع من الزيارة التي قام بها المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين بهدف تعزيز وتعميق التعاون الاقتصادي مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

لبرلين مصالح كبيرة في الصين التي تعتبر سوقاً مهماً للصادرات الألمانية، ولا سيما في مجال السيارات. وقد حاولت ألمانيا من خلال استراتيجيتها تجاه الصين التي أصدرتها العام الماضي تقليل اعتمادها على الصين من دون الانفصال عنها، إذ تنظر ألمانيا كما الاتحاد الأوروبي إلى الصين باعتبارها شريكاً منافساً ومنافساً نظامياً. 

من المحتمل أن تتخذ ألمانيا الإجراءات القانونية اللازمة في حال التأكّد من صحة عملية التجسس؛ ففي تعليقه على الحادثة، قال المستشار الألماني إن ألمانيا لن تقبل بالتجسس عليها، ويجب اعتقال المسؤولين عن التجسس ومحاكمتهم، وأعرب عن ضرورة اتخاذ السلطات الأمنية في بلاده إجراءات حازمة ضد أنشطة التجسس فيها، إلا أن من المستبعد أن تؤثر قضية التجسس في العلاقات الألمانية الصينية لعدة أسباب اقتصادية في الدرجة الأولى.

يرتبط البلدان بشراكة استراتيجية شاملة منذ العام 2014، والصين هي الشريك التجاري الأول لألمانيا، إذ وصل حجم التبادل التجاري بينهما العام الماضي إلى 266.68 مليار دولار أميركي، وبالتالي فإن توتر العلاقات قد يؤدي إلى تراجع العلاقات الاقتصادية في حال قامت الصين بتقليل وارداتها من ألمانيا وفرض قيود على الشركات الألمانية العاملة على أراضيها. من ناحيتها، قد تقوم ألمانيا أيضاً بالتشدد في مراقبة الأنشطة والأعمال الصينية على أراضيها بذريعة حماية الأمن القومي الألماني وتقليل وارداتها من الصين.

يعاني الاقتصاد الألماني من ركود، إذ توقعت الحكومة الألمانية أن اقتصاد البلاد سيحقق نمواً بحدود 0.2 بدلاً من 1.3% كانت قد توقعتها في الخريف الماضي. ومن المحتمل أن يستمر النمو بحدود 0.5% حتى عام 2028. 

الوضع الاقتصادي السيئ لاقتصاد ألمانيا وصفه وزير المالية روبيرت هابيك بـ"المأساوي". وهناك تخوف من استمرار التدهور بسبب اعتماد الاقتصاد الألماني على استقرار أسعار الطاقة والمواد الأولية التي كانت تأتيه من الخارج ومن روسيا. وقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية فيه بشكل كبير. كما يرتبط نموه بزيادة الصادرات إلى مختلف أسواق العالم، ولا سيما السوق الصينية التي تشهد تراجعاً في الطلب.

ونظراً إلى ما يعانيه الاقتصاد الألماني، وجدت برلين أن بكين هي القادرة على إنعاشه عبر زيادة الطلب على البضائع والمنتجات الألمانية وانخراط الشركات الألمانية بشكل أكبر في السوق الصيني، على الرغم من أن ألمانيا تحاول تقليل اعتمادها على الصين، ولكن يبدو أنها وجدت أنها ستتكبد خسائر نتيجة ابتعادها عنها. لذلك، حاول المستشار الألماني في أثناء زيارته الأخيرة إلى بكين تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين والتشاور مع الصين لإفساح المجال أمام الشركات الألمانية للمنافسة العادلة. 

وفي إطار آخر، يوجد في الصين أكثر من 5000 شركة ألمانية. وأنشأت شركات سيارات ألمانية كبرى مثل Daimler وBMW وفولكس فاغن مرافق إنتاج كبيرة في الصين، الأمر الذي ساهم في زيادة أرباحها. وأيضاً هناك استثمارات كبيرة في الصين لشركة Siemens الرائدة في مجال التكنولوجيا والإلكترونيات وشركة الكيماويات BASF.

على الرغم من إصدار ألمانيا استراتيجيتها تجاه الصين وسعيها لتخفيف اعتمادها عليها، فإن الإحصاءات تظهر أن الشركات الألمانية زادت استثماراتها في بكين، متجاهلة مطالب الحكومة، إذ بلغ حجم الاستثمار المباشر للشركات الألمانية في الصين العام الماضي 13 مليار دولار أميركي. وأظهرت إحصاءات وزارة التجارة الصينية أن الاستثمارات الألمانية في الصين ارتفعت بنسبة 19.8% على أساس سنوي في الشهرين الأولين من العام الحالي. 

وتعتزم الشركات الألمانية زيادة استثمارتها في الصين، فشركة فولكس فاغن أعلنت أنها ستستثمر 2.7 مليار دولار في الصين لتوسيع عملياتها في هذا البلد. كما يستدل من مرافقة مديرين تنفيذين ومديرين لأهم الشركات الألمانية للمستشار الألماني في أثناء زيارته الصين أن هذه الشركات تنوي زيادة استثمارتها في هذا البلد الآسيوي، وبالتالي فإن تضييق الخناق على هذه الشركات، نتيجة توتر العلاقات بين البلدين في حال حصولها، سيلحق ضرراً بها.. ويمكن هنا الاستشهاد بالأضرار التي لحقت بالشركات الأميركية نتيجة الحرب التجارية بين الصين وأميركا.

في حال تأكدت برلين من واقعة التجسس، فإنها أمام عدة خيارات، منها أن تحتج لدى الصين على هذا الحادث، وتبقي باب العلاقات معها مفتوحاً، على أن تتخذ جميع الاحتياطات اللازمة للحفاظ على أمنها القومي من دون أن تغضب بكين التي سترفض بالطبع التهم الموجهة إليها، أو أن تكون هناك حرب تصريحات بين الجانبين، على أن تبقى في إطار الاتهامات الكلامية من دون أن تتدحرج العلاقات إلى الأسفل.

يتوقف ذلك على مدى الضغوط الداخلية التي ستمارس على المستشار الألماني للتصعيد مع الصين أو أن تتوتر العلاقات بين البلدين، وهو ما لا تريده برلين، نظراً إلى اعتمادها على السوق الصيني وتأثير ذلك في اقتصادها الذي يعاني أصلاً من ركود.

كما أنَّ بكين لها ثقلها على الصعيد العالمي ودورها في الحد من الأزمات العالمية والإقليمية، ومن مصلحة برلين ألا توتر علاقاتها معها كي يبقى البلدان قادرين على التحاور والتباحث في إيجاد حل للنزاعات، مثل الحرب الروسية الأوكرانية.

الادعاءات المتكررة بـ"التجسس الصيني" خيَّمت على العلاقات الصينية الأوروبية، وإن كانت الصين دائماً تطلب إظهار الدلائل على أنها تقوم بالتجسس أو تجند مواطنين للتجسس لمصلحتها. 

بالنسبة إلى اتهام ألمانيا للصين بالتجسس، فهناك أسئلة عديدة تطرح حول ذلك: لماذا تم الإعلان عن التجسس الصيني بعد عودة المستشار الألماني من بكين؟ ولماذا تزامن إعلان ألمانيا عن التجسس مع اتهام بريطانيا مواطنين بالتجسس لمصلحة الصين؟ 

 اتهام الصين بالتجسّس لن يتوقف، وستزداد حدته مع تصاعد المنافسة بينها وبين الدول الغربية والضغوطات التي تمارسها عليها هذه الدول.

ومع ذلك، تحرص الصين والدول الأوروبية على عدم الإضرار بالعلاقات الاقتصادية في ما بينها، لما لذلك من تأثير فيها، وفي الاقتصاد العالمي ككل.