ترامب، نتنياهو، والعفو؛ الطيور على أشكالها تقع، ولكن...!

ما يسعى إليه دونالد ترامب واضح؛ استغلال النفوذ الاستثنائي الذي يتمتّع به نتنياهو وحده، على قاعدته الشعبية، ليقوده إلى تحقيق رؤية سياسية تتمحور حول "سلام في المنطقة" على طريقته.

0:00
  • يبحث ترامب عن صفقة تاريخية تحمل اسمه؛ نسخة مُحدّثة من
    يبحث ترامب عن صفقة تاريخية تحمل اسمه؛ نسخة مُحدّثة من "صفقة القرن".

أعلن مسؤولون في البيت الأبيض أنّ الرسالة التي أرسلها ترامب إلى الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، بطلب العفو عن نتنياهو، ليست جزءاً من صفقة أو ترتيب دبلوماسي يتعلّق بحرب غزة أو الاتفاقات الإقليمية، بل هي نابعة من مبادرة شخصية من الرئيس الأميركي؛ فترامب "يؤمن إيماناً راسخاً بأنّ نتنياهو يستحقّ العفو ويتعاطف مع وضعه".

وبحسب المسؤولين، "يرى الرئيس أنّ هذا ظلمٌ مماثل لما واجهه هو نفسه عندما وُجِّهت إليه لوائح اتهام غير مبرّرة"، خاصةً وأنه أصدر قبل أيام قليلة عفواً عن شريكه، رودي جولياني، وعدد من مساعديه الآخرين، على خلفيّة قصة تتعلّق بانتخابات عام 2020. عندها، قال ترامب لنفسه: "مهلاً، أنا رئيس الولايات المتحدة، ويمكنني العفو عمن أشاء، متى أشاء. وهرتسوغ، رئيس دولة إسرائيل، لذا يمكنه العفو متى يشاء عمن يشاء". لذلك، أرسَل هذه الرسالة.

ولا غرابة أنّ مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلوا مع الرسالة بالقول "الطيور على أشكالها تقع" في إشارة إلى أنّ ترامب أُدين بـ 34 تهمة جنائية فيدرالية تتعلّق بتزوير سجلات تجارية مرتبطة بمدفوعات أموال سرّية للتسترّ على فضائح جنسية خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016.

وربما يكون أكثر رجل فاسد دخل المكتب البيضاوي على الإطلاق. هذا ليس عملاً في إطار العلاقات الدبلوماسية بين الدول، بل هو عمل متهور من رئيس دولة تورّط هو نفسه في العديد من الإجراءات غير القانونية، الجنائية والمدنية، ويشارك نتنياهو ازدراءه لأجهزة إنفاذ القانون. وربما لا يغيب عن البعد الشخصي كذلك، سعي ترامب "لردّ الجميل" بعد رسالة الترشيح التي أرسلها نتنياهو إلى لجنة جائزة نوبل للسلام، فاقترح ترامب بالمقابل عفواً قضائياً فورياً عن نتنياهو أو إلغاء محاكمته، كأنّ هذه مقابل تلك.

ومع أنّ ترامب حاول أن يكون دبلوماسياً على غير المعتاد في أسلوب صياغته، وأن يُظهر احتراماً كبيراً لهرتسوغ ولاستقلالية القضاء الإسرائيلي؛ لكنّ المضمون واضح لا يتغيّر: ممارسة ضغط شخصي وسياسي شديد من أجل منح نتنياهو العفو.

فحين ألقى ترامب خطابه الشهير في كنيست الاحتلال وطلب من الرئيس هرتسوغ للمرة الأولى منح نتنياهو العفو، أوضحت مصادر إسرائيلية لفريق ترامب، بعد خطابه، أنّ إجراءات العفو في "إسرائيل" تختلف عن تلك المُتّبعة في الولايات المتحدة، وتتطلّب الالتزام بقواعد قانونية واضحة.

ومع ذلك، اختار ترامب تقديم طلب خطي رسمي بهذا الشأن، في خطوة تؤكّد رغبته في مواصلة التدخّل في المسألة. ويؤكّد المحيطون بالرئيس أنه ينوي مواصلة التعبير عن رأيه علناً والعمل مع رئيس الوزراء، حتى لو أثارت خطواته انتقادات لاذعة في "إسرائيل" وفي البيت الأبيض.

وهذا بالتحديد ما دفع صحيفة "معاريف" العبرية لوصف رسالة ترامب التي طالب فيها، الأربعاء، الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بالعفو عن نتنياهو بـ "عناق الدب"، مشيرة إلى أنّ "رئيس البيت الأبيض لا يمنح هدايا مجانية لأحد، حتى ولو كان بنيامين نتنياهو شخصياً". 

ما يسعى إليه دونالد ترامب واضح؛ استغلال النفوذ الاستثنائي الذي يتمتّع به نتنياهو وحده، على قاعدته الشعبية، ليقوده إلى تحقيق رؤية سياسية تتمحور حول "سلام في المنطقة" على طريقته.

يبحث ترامب عن صفقة تاريخية تحمل اسمه؛ نسخة مُحدّثة من "صفقة القرن"، ولتحقيق ذلك، يحتاج إلى شريك قادر على حشد شعبه. يُدرك ترامب أنّ نفوذ نتنياهو على معسكر اليمين هائل، وله جمهور مُخلص لا يُعاقبه على التناقضات السياسية، وأنّ قوة نتنياهو الحقيقية ليست أيديولوجية، بل قبضته على الشعب، فهو الوحيد في النظام السياسي القادر على قيادة أنصاره إلى "مكانٍ ونقيضه"، وأنه الوحيد القادر على إقناع مؤيّديه بخطوة سياسية بروح "حلّ الدولتين".

وهذا يقودنا إلى مسألة العفو؛ فترامب لا يحاول مساعدة صديق، بل يحاول هندسة "مُصالحة عملية"، بين أنصار نتنياهو وخصومه، بهدف تشكيل حكومة من دون اليمين المتطرّف، قادرة على تعزيز "السلام" مع الفلسطينيين. ويبدو أنه توصّل إلى قناعة بأنّ محاكمة نتنياهو قد تحوّلت من رصيد سياسي للمعارضة، إلى عبء على النظام السياسي بأكمله، ليس بسبب إدانة وشيكة، وليس لأنّ المحاكمة تستغرق وقتاً ثميناً لنتنياهو، بل لأنها تُقيّد حركته السياسية وتُقيّده باليمين المتطرّف، وبالتالي، حتماً، تُقيّد أيضاً مساحة الفرص السياسية. 

يُقدّم ترامب دعماً رئاسياً ورعاية دولية للعفو، والوساطة مع المعارضة، ومساعدة سياسية لنتنياهو في كسر اعتماده على اليمين المتطرّف؛ فالعفو ليس منّةً شخصيةً لنتنياهو، بل ثمنٌ لتغيير المسار وفتح مساحة سياسية جديدة.

إنّ إصرار ترامب على "التدخّل المباشر في الشأن الداخلي الإسرائيلي"، سواء خلال خطابه الأخير في كنيست الاحتلال، أو عبر رسالته التي تلقّاها هرتسوغ، الأربعاء، تشي بتقديم هدية مقابل عوائد منتظرة، ربما تصل إلى الرغبة في ضمان مستقبل نتنياهو السياسي؛ ولا تبتعد كثيراً في أقلّ تقدير، عن حثّ نتنياهو على تقديم تنازلات إزاء الوضع في قطاع غزة، ومراحل التسوية المرتقبة بموجب خطة ترامب. 

ولذلك انتقدت المعارضة الإسرائيلية تدخّل ترامب، ليس لأنه يشكّل مساساً بسيادة القضاء الإسرائيلي فحسب، بل لأنها رأت فيه تقوية لموقف خصمهم (نتنياهو) في المنافسة الحزبية وفي الانتخابات المقبلة.

كما يدرك خصوم نتنياهو حرصه الشديد على الخروج من الحرب بسيناريو سياسي آمن يعيد ترتيب الأوراق الداخلية قبل خوض أيّ استحقاق انتخابي مقبل، ويبدو أنه سيلقى دعم ترامب في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.

وفي المحصّلة، تبرز ملامح صفقة غير تقليدية تتداخل فيها الحسابات السياسية مع الملفات القضائية، حيث يطرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خيار العفو عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كأداة ضغط ليستكمل إنهاء خطته ويتمكّن من تحقيق تطلّعاته في الشرق الأوسط، في معادلة يصفها مراقبون بـ"المقايضة الكبرىى"، مقايضة تأخذ في الحسبان تداخل المسألة القضائية بطرح اليوم التالي، فإنهاء الحرب فرصة لإعادة تشكيل المشهد السياسي في "إسرائيل" وفلسطين معاً، وربما في الإقليم. 

فتحرك ترامب يستند إلى أنّ إنهاء الحرب في غزة والدخول إلى ترتيبات أوسع في المنطقة، يمرّ بتسوية قضائية ترفع عن نتنياهو أعباء المحاكمة وشبح السجن. ولا يخفى أنّ ترامب يحاول الاستثمار في ورقة نتنياهو لتحسين فرصه الانتخابية، تماماً كما يفعل الأخير في الداخل الإسرائيلي، فكلّ منهما يحتاج الآخر، وكلّ على طريقته.

تُقدّر دائرة هرتسوغ أنّ ترامب سيستمرّ في ممارسة ضغوط سياسية، وقد يذهب إلى أبعد مما فعله حتى اللحظة، إذ لا يُعقل أنّ كلّ هذه العملية السياسية والإعلامية من واشنطن تمّت فقط لتنتهي برفض مهذّب من رئيس "الدولة" الإسرائيلي. الأرجح أنّ الأمر كلّه تهيئة لنتنياهو نفسه، فهل الخطوة التالية لترامب هي أن يذهب إلى نتنياهو ويقول له: "عزيزي، لقد بذلتُ كلّ ما في وسعي من أجلك. الآن، ما عليك سوى إرسال الطلب إلى الرئيس هرتسوغ، ولا شكّ أنه سيوافق عليه"!