حين يتحوّل التدمير إلى خطة، والجرافة إلى مقدس

التداخل بين الهدم والعبادة هو جوهر الفهم الديني لهدم غزة، وهو ما يجعل الحرب الحالية تختلف عن الحروب السابقة: إنها ليست فقط حرباً لإسكات المقاومة، بل هي"حربُ تطهيرٍ لاهوتي".

  • كل تنازل سياسي يمكن ترميمه، وكل مكسب يمكن تعويضه، إلا التهجير!
    كل تنازل سياسي يمكن ترميمه، وكل مكسب يمكن تعويضه، إلا التهجير!

بنظرة سريعة إلى صور الأقمار الصناعية الأخيرة لقطاع غزة، يبدو المشهد كما لو أن قنبلة نووية قد ضُربت هناك. فحسب تقرير مركز "يونوسات" التابع للأمم المتحدة، الصادر في تموز/ يوليو 2025، فإن 69.9% من منازل غزة قد دُمّرت أو تضررت بشكل بالغ، أي ما يقارب 174,000 مبنى من أصل 250,000.

مدينة رفح محيت فعلياً عن الخريطة، وأجزاء واسعة من خان يونس وشمال غزة لاقت المصير ذاته. أكثر من 1.3 مليون فلسطيني باتوا بلا مأوى، وتقارير الأمم المتحدة تتحدث عن 50 مليون طن من الركام في قطاع غزة، لتتّضح النية الإسرائيلية في تدمير شبه شامل لغزة.

فما الذي يفسّر هذا العنف التدميري الذي يتخطّى الحاجة الأمنية، ويغدو سلوكاً متكرّراً واحتفالياً في آنٍ؟ 

هناك ثلاثة أبعاد في مجموعها وتكاملها، نستطيع فهم وإدراك الأسباب الحقيقية من وراء سحق غزة وتدميرها:

أولاً: البعد العسكري

تسعى "إسرائيل" لتبرير سياسة الهدم عبر الذريعة الأمنية: "تدمير البنية التحتية العسكرية لحماس". ويُقصد بذلك تفكيك الأنفاق، وهدم البيوت التي يُشتبه بأنها تحتوي مخازن سلاح أو تُستخدم كمراكز قيادة. هذه الذريعة تتكرّر في الخطاب الرسمي، وتُستخدم لتبرير قصف عشوائي أو مركّز على مناطق مدنية.

لكنّ هذه الحجة تنهار أمام وقائع عديدة:

كمّ البيوت المهدّمة وتنوّع المناطق المستهدفة لا يتناسب مع أهداف تكتيكية.

الطريقة التي يتم بها الهدم (تفجيرٌ كامل، تسوية بالأرض، ترك الكاميرات توثّق المشهد) تُحيل إلى غريزة تدمير لا وظيفة لها عسكرياً.

التوثيقات البصرية لجنودٍ يرقصون بعد التفجير، أو يتلون صلوات توراتية قبل تسوية بيتٍ بالأرض، تشير إلى دوافع تتجاوز البعد الأمني.

إذاً، الهدم ليس مجرد ضرورة عسكرية. فما الدوافع الأعمق.

ثانياً: البعد الاقتصادي

رغم أن المبرر العسكري هو الغطاء الرسمي لعمليات الهدم، فإن البعد الاقتصادي لا يمكن تجاهله كعامل مؤثر في تعميق هذه الظاهرة. كما أشار الصحافي الإسرائيلي أوديد شالوم في مقاله المنشور في صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 23 تموز/يوليو 2025، تتحوّل عمليات الهدم إلى مشروع اقتصادي واسع تشارك فيه شركات خاصة مرتبطة مباشرة بوزارة الدفاع الإسرائيلية، وتشغّل سائقي جرافات يتقاضون أجوراً تتراوح بين 2,500 و5,000 شيكل يومياً. كما أظهر التقرير أن بعض المشغلين يحققون أرباحاً صافية تصل إلى 30 ألف شيكل شهرياً.

هدم آلاف المنازل وتحويله إلى "مشروع اقتصادي" يضمن استمرار دوران عجلة التدمير ويخفف العبء المالي واللوجستي عن "الجيش"، كما يشجع على التوسع في نطاق الهدم من دون توقف. فالربحية التي تحققها شركات المقاولات والأشخاص العاملون في تشغيل المعدات تدفع إلى استمرار هذه العمليات وتكثيفها.

وبالتالي، يصبح الهدم ليس فقط وسيلة عسكرية بحتة بل نشاطاً اقتصادياً له مصالحه الخاصة، حيث يتم تجنيد القوى المدنية للمساهمة في عملية التدمير، ما يعزز من قدرة "الجيش" على تنفيذ خططه الواسعة من دون قيود مالية أو لوجستية.

ثالثاً: البعد الديني "التوراتي"

في الرواية الدينية الصهيونية، تشكّل غزة جزءاً من أرض "اليشوع" التي يُفترض أن تُطهَّر من الغرباء. ويستند هذا الفهم إلى نصوصٍ توراتية حول "المدن الفلسطينية الخمس" (غزة، أشدود، عسقلان، جت، وعقرون) والتي أُعطيت لبني إسرائيل بقيادة يشوع بن نون.

هذه الرؤية يُعاد تفعيلها في كل مواجهة، وتبرز في خطاب الحاخامات والجنود المتدينين:

حاخام مستوطنة "يتسهار" وصف غزة بأنها "المدينة التي يجب أن تُمحى عن وجه الأرض لأن الرب أمر يشوع بذلك ولم يُكمل المهمة".

حاخامات "كريات أربع" أصدروا فتاوى ترى في كل بيتٍ في غزة "ملكية مغتصبة" يجب تدميرها كي تُطهّر الأرض.

بل وتجاوز الخطاب ذلك إلى وصف "تدمير غزة" بأنه شرطٌ ضروري لـ"تسريع الخلاص الميسّياني".

وبالتالي، لا يُنظر إلى غزة كتهديد أمني فحسب، بل كـ"نجاسة قومية" يجب محوها، رمزاً وتاريخاً ووجوداً.

اللافت أن العديد من سائقِي جرافات الـD9 (وهي الجرافات التي تُستخدم في تفجير وتدمير المنازل) ينتمون إلى التيار الصهيوني الديني، بعضهم يروّج لهدم غزة كـ"عملٍ تعبّدي"، ويربط بين قيادة الجرافة وتلاوة التوراة.

ومن أبرز الأمثلة:

"أوفير زرابييف"، جندي احتياط، وحاخام من التيار الصهيوني الاستيطاني، تطوع لقيادة D9، اشتهر بتدمير المباني في رفح بينما يتلو التوراة بصوتٍ عالٍ عبر مكبر الصوت. انتشرت فيديوهاته بشكل واسع، حتى إن نتنياهو نفسه زاره في رفح وأشاد به واصفاً إياه بـ"بطل إسرائيل الجديد".

يعمل زرابييف ضمن شبكة غير رسمية تتكوّن من مجموعات دينية متطرفة تنشط في يتسهار، كريات أربع، وبؤر في الضفة الغربية، تقوم بتشجيع الشبان المتدينين على التجنّد في وحدات "الهندسة القتالية"، وتحديداً كسائقي جرافات، بهدف "تنفيذ الشريعة على أعداء الرب"، على غرار "شبيبة التلال" الإرهابية في الضفة الغربية.

وبذلك، حوّلت الصهيونية الدينية الجرافة (D9) من أداة عسكرية إلى رمزٍ ديني: آلة لتطبيق النبوءة.

فمنذ انسحاب 2005، تحوّلت غزة في المخيال الصهيوني إلى رمزٍ للندم القومي. إذ يراها التيار الديني بمختلف مشاربه على أنها "الأرض التي فُقدت بسبب ضعف القيادة"، وأن استعادتها الكاملة -بما فيها تدمير عمرانها وسكانها– شرطٌ لبناء "الهيكل الثالث".

لذلك، فإن تدمير غزة يُقدَّم ضمنياً كـ:

*. تكفيرٍ عن خطيئة الانسحاب.

*. تمهيدٍ لاستعادة السيطرة الكاملة، ومنع قيام أي كيان سياسي فلسطيني.

*. إعلان عن العودة إلى الجذور التوراتية للدولة.

إن مشهد الدمار، من منظورهم، هو بالضبط "مشهد الولادة الجديدة لإسرائيل الحقيقية"، وليس مجرد عملية حربية.

الأمر الذي يفسر مشاهد الرقص على أنقاض البيوت، أو الضحك عند تفجير مسجد، أو تصوير الجنود وهم يرقصون ويغنّون "أُمرنا بمحو عماليق"، لأن الذهنية العقائدية المتجذّرة، لا ترى في الفلسطيني خصماً عسكرياً بل "عدواً دينياً"، وتحوّلت الحرب إلى طقسٍ ديني، لا إلى مواجهة بين جيشَين، وبالتالي فقدان للحدود الأخلاقية، لأن تدمير العدو في هذه الحالة "عبادة"، لا جريمة.

هذا التداخل بين الهدم والعبادة هو جوهر الفهم الديني لهدم غزة، وهو ما يجعل الحرب الحالية تختلف عن الحروب السابقة: إنها ليست فقط حرباً لإسكات المقاومة، بل هي "حربُ تطهيرٍ لاهوتي" في نظر العديد من الجنود والمحرّضين.

إن ما يجري في غزة من هدم وتفجير وتسويةٍ للأحياء السكنية ليس استثناءً ظرفياً، ولا خطأ في تقديرٍ عسكري، بل هو سياسة مُمنهجة تتغذّى على رؤيةٍ دينيةٍ توراتية، وتُنفَّذ بأدواتٍ عسكرية يُعاد تعريفها كمقدّسات، وبذلك يتحوّل تدمير غزة إلى فعلٍ طبيعي، بل إلى لحظة "إشراق روحي" في المخيال الإسرائيلي الديني.

تمضي "إسرائيل" بكل أذرعها—الدينية والعسكرية والاقتصادية— في مشروعها ضد غزة، مشروع في كل ساعة يقضم العمران في غزة ويقتل السكان، ويحوّل غزة إلى فراغٍ لا يهدد الرواية الصهيونية ولا يذكّر العالم بجرائمه.

ومع الأسف، الوقت يلعب لمصلحة الإسرائيلي في ظل غياب رادع دولي وعربي، وتواطؤ الولايات المتحدة الأميركية وشراكتها معها، لذا إن أعظم انتصار يمكن أن يُنتزع من بين أنياب هذا المشروع التدميري، هو أن يبقى الفلسطيني في غزة.

كل تنازل سياسي يمكن ترميمه، وكل مكسب يمكن تعويضه، إلا التهجير؛ فهو استسلام تاريخي كامل. وعلى الجميع أن يدرك أن وقف الحرب – بأي ثمن – هو الواجب الأول، لأن بقاء الناس هو هزيمة استراتيجية للمخطط الصهيوني ذاته، ولأن المعركة اليوم لم تعد على شروط اليوم التالي، بل على من سيبقى ليشهد اليوم التالي.