خلف الغطرسة الإسرائيلية : قلق عميق في "تل أبيب"

حروب الكيان ومكاسبه التكتيكية والعسكرية لم تنجح في معالجة المعضلات البنيوية لدى المستوطنين، بل على العكس، فغالباً ما فاقمتها وجعلتها أكثر سوءاً.

  •  الخيار الوحيد لأهل الأرض هو مشروع المقاومة.
    الخيار الوحيد لأهل الأرض هو مشروع المقاومة.

يبدو أنّ العدوّ الإسرائيلي، ورغم الإنجازات التي حقّقها، لا يزال يعيش قلقاً وخوفاً عميقين، وحالةً من اللايقين نابعة من الطبيعة المضطربة لكيانٍ مصطنعٍ تقوده شخصياتٌ نرجسية تصارع حقائق التاريخ والجغرافيا.

هذا الاستنتاج يقرّ به العديد من الباحثين والكتّاب الغربيين والإسرائيليين الذين يطرحون في مقالاتهم وأبحاثهم أسئلةً وهواجسَ كثيرة حول مستقبل هذا الكيان وإمكانية تجاوزه لمعضلاته البنيوية.

فالأسئلة المطروحة تستبطن اعترافاً بأنّ حروب الكيان ومكاسبه التكتيكية والعسكرية لم تنجح في معالجة هذه المعضلات، بل على العكس، فغالباً ما فاقمتها وجعلتها أكثر سوءاً.

روجيه كوهين، الذي عمل مراسلاً في الشرق الأوسط على مدى عقود، وأمضى مؤخّراً أسابيع في الكيان الإسرائيلي، كتب مقالاً مطوّلاً في صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان: "حرب إسرائيل مع نفسها"، نقل فيه ما يتداوله جزء من الرأي العامّ الإسرائيلي.


يشير كوهين إلى أنّ في الداخل الإسرائيلي من يقول: "إنّ الجيران يتحدّثون عن إمبراطورية إسرائيلية على خلفيّة حروب إسرائيل في غزة ولبنان وإيران، لكنّ داخل إسرائيل لا يوجد شعور بالنصر رغم التفوّق العسكري الإقليمي، بل وجدت إسرائيل أنّ أضعف أعدائها، حماس، هي الأكثر صلابة."

وينقل كوهين عن أحد أفراد عائلة أسير في السابع من أكتوبر قوله:
"لا أريد أن يكون بلدي بلداً يحكم الآخرين، ولا أريد العيش في دولة بلا حدود دولية معلنة ومعترف بها. أريد أن أعيش في بلدٍ عادي".

تؤكّد هذه الشهادات بوضوح أنّ الإسرائيليين يدركون في أعماقهم أنهم يعيشون في بلدٍ غير عادي، غير طبيعي، مصطنع، بلا حدود واضحة، ويحكم الآخرين. هذا الإدراك يجعلهم في حالة قلق دائم ومستمرّ منذ تأسيس الكيان، ولم تفلح كلّ الحروب التي خاضها، ولا محاولات إظهاره في صورة المنتصر، في شفائه من مرض عضال أبرزُ أعراضه الشعور بأنه كيانٌ غير طبيعي.

هذا ما تبرزه أيضاً ماريان رونسزين، وهي محلّلة للشؤون الإسرائيلية في مجموعة الأزمات الدولية، إذ كتبت في نيويورك تايمز مقالاً بعنوان: "لا يمكن لإسرائيل مواصلة الفوز بهذه الطريقة"، جاء فيه:
"عادةً ما يُفهم الانتصار على أنه نقطة نهاية، أو على الأقل نتيجة لا تتطلّب المزيد من الإجراءات. لكن في إسرائيل يبدو أنّ الانتصار لا يؤدّي إلا إلى مزيد من جولات الحرب. فإسرائيل ليست منتصرة، بل مقاتلة دائمة".

وبالفعل، فقد بدأ هذا الكيان مقاتلاً نيابةً عن الغرب، منفّذاً ما وصفه المستشار الألماني مؤخّراً بـ"المهام القذرة"، لكنه في الوقت نفسه كان يعِد جماهيره الاستيطانية بأنّ هذا القتال سيؤسّس لهم دولةً مزدهرةً طبيعيةً يشعرون فيها بالأمان.

أما اليوم، وبعد ما يقارب ثمانين عاماً على تأسيس هذا الكيان، فلا يبدو أنّ شيئاً من ملامح تلك الدولة الموعودة قد تحقّق. بل على العكس من ذلك، تبدو "إسرائيل" وكأنها تنزلق نحو المزيد من القتال والحروب من دون أيّ أفق واضح. وهذا ما تشير إليه الكاتبة بقولها:

"حتى لو تمّ وقف إطلاق النار في غزة، ستظل إسرائيل تحتل أراضي في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وتحتفظ بوجود عسكري في لبنان وسوريا، فضلاً عن هضبة الجولان التي احتلتها وضمّتها بالفعل".

وتضيف الكاتبة: "لن يعرف الإسرائيليون الأفق الحقيقي إلا عندما يشعر به الجميع من حولهم، وليس عندما تعيش دولة واحدة بمفردها في وهم الأمن".

في الحقيقة، إنّ هذا "الأمن " المفقود في "إسرائيل" لن يتحقّق ما دام الاحتلال قائماً والحقوق مغتصبة. فجوهر القضية الفلسطينية، التي لم تستطع كلّ الجهود العسكرية والدبلوماسية تصفيتها رغم الحروب المتكررة ومؤتمرات التسوية المرعية أميركياً، هو حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه، وحقّه في العودة إلى دياره، وإقامة دولته المستقلة على أرض فلسطين التاريخية. وهو ما يُعدّ مقدّمةً لتمكين شعوب المنطقة بأسرها من نيل حقّها في تقرير مصيرها بعيداً عن التدخّلات الخارجية والهيمنة الأميركية.

هذه الحقيقة لم تغيّرها التحوّلات التي حاولت "إسرائيل" فرضها، رغم ما استخدمته من قوةٍ عسكريةٍ تدميريةٍ وآلةِ قتلٍ إجراميةٍ سخّرتها لتحقيق ما سمّته "الشرق الأوسط الجديد".
بل على العكس من ذلك، كان لهذا الإجرام الصهيوني أثرٌ عميق على المستوى الدولي، إذ فقدت "إسرائيل" الصورة التي سعت إلى ترسيخها عالمياً، وخصوصاً في العالم الغربي، كامتدادٍ "طبيعي" للحضارة الغربية وجبهتها المتقدّمة في مواجهة "الشرق المتخلّف".

وهذا ما أشار إليه قسطنطين شرايبر في مقالٍ له في مجلة بوليتيكو، حيث كتب أنّ "إسرائيل" باتت:

"أمةً تنفصل بشكلٍ متزايد عن الغرب، وتتجه نحو الانغلاق على نفسها".

وفي السياق ذاته، كتب يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، في مقالةٍ نشرتها مجلة فورين أفيرز:

"لقد انقلب العالم على إسرائيل، وأصبحت اتفاقات أبراهام عرضةً للتجميد أو الإلغاء. فقدت إسرائيل الدعم طويل الأمد الذي كانت تحظى به من الحزبين في واشنطن، وأصبحت هتافات "من النهر إلى البحر" المتردّدة في حرم الجامعات دعوةً صريحة لتدمير الدولة اليهودية وإبادة شعبها. لذا، عندما يردّد الطلاب في جامعة كولومبيا وجامعة طهران الشعارات نفسها، يحقّ لليهود أن يشعروا بالقلق".

يؤكّد هذا الكلام أنّ القلق الصهيوني تضاعف نتيجة انعدام الأمن، وانهيار صورة "إسرائيل"، وتراجع مستوى الدعم الذي كانت تتلقّاه في أوساط الشعوب الغربية.
لكنّ قلق الإسرائيليين لا يتوقّف عند هذه الحدود، فهناك بُعد ثالث يرتبط بالجبهة الداخلية، حيث ينبع القلق من الانقسام الداخلي الحادّ داخل كيان العدوّ، ومن التحوّلات الديموغرافية التي تجري لصالح قوى دينية متطرّفة على حساب الأغلبية المؤسسة لهذا الكيان، ذات الميول العلمانية الليبرالية.

تتزايد التقارير التي تشير إلى نمو دور الحريديم في "إسرائيل"، وأنّ هذه الجماعة تشكّل نحو 14% من السكان، ومن المرجّح أن ترتفع هذه النسبة عاماً بعد عام. هؤلاء يُعفون من الخدمة العسكرية بموجب اتفاق أبرمه أول رئيس وزراء لـ "إسرائيل"، بن غوريون، عند تأسيس الكيان؛ حينها كان عدد المعفيين نحو 400 طالب، أما اليوم فبسبب النمو الديموغرافي الهائل للمتطرّفين الأرثوذكس (الحريديم) يُعفى نحو 63 ألف شاب من الخدمة العسكرية. وقد أحدث ذلك خللاً كبيراً، إذ تشعر فئات من الإسرائيليين أنّ أولادهم يُقتَلون في الحروب بينما أولاد الحريديم يُعفون من الخدمة، ما يعمّق الانقسام الداخلي مع تزايد الشعور بأنّ المتطرّفين يسعون إلى تحويل "إسرائيل" إلى دولةٍ دينيةٍ مغلقة لا تعبّر عن القيم الليبرالية التي كانت سائدة.

وقد نقل روجيه كوهين عن وزير الأمن الإسرائيلي ورئيس أركان "الجيش" السابق، موشيه يعلون، قوله: "ما لدينا الآن مع وجود هذه الحكومة هو قيادة استبدادية وعنصرية وكارهة وفاسدة ومقاطعة". ويرى الكاتب أنّ غضب يعلون يعكس القناعة السائدة بأنّ الميثاق الجوهري للديمقراطية الإسرائيلية قد انهار على مدى العامين الماضيين، وقد يكون من الصعب إصلاحه.

وينسجم هذا الطرح مع ما ذكره يائير لابيد في مقاله، إذ اعتبر أنّ حكومة نتنياهو تحتقِر علناً مبدأ "دولة إسرائيل" الديمقراطية الملتزمة بالقيم الليبرالية الغربية، وتسعى بدلاً من ذلك إلى إقامة نظام تيوقراطي وغير ليبرالي، معفي من استقصاء وسائل الإعلام وخالٍ من مفاهيم مثل سيادة القانون، مع تهديد مستمر بانتخابات حرّة ونزيهة.

هذا الواقع المعقّد وحالة اللايقين حول المستقبل بدأت تُترجم فعلياً في مؤشرات اجتماعية وسياسية داخل الكيان. يؤكد كوهين ملاحظات تعكس ذلك قائلاً: "بعد مرور عامين على أكبر هزيمة (يقصد طوفان الأقصى) في تاريخ البلاد الذي يمتد 77 عاماً، يجد الإسرائيليون أنفسهم منهكين عقلياً وجسدياً، وليس فقط بسبب استدعاء نحو 295 ألف جندي احتياطي مراراً وتكراراً.

فقد هاجر 83 ألف مستوطن في عام 2024 بزيادة 50% عن العام السابق، كما انتحر سبعة من أفراد "الجيش" الإسرائيلي في شهري تموز وآب وحدهما. الناس إما يتابعون الأخبار بشكل قهري أو لا يتابعونها على الإطلاق لأنهم منهكون؛ ويتحدّثون عن ثِقَل الأعباء، وكما تتلاشى الملصقات وصور الرهائن والجنود القتلى في غزة، ينفجر الغضب لأتفه الأسباب.

هكذا تتبدّى صورة مغايرة لهذا الكيان بعيداً عن الغطرسة والقوة؛ تبدو "إسرائيل" فعلياً "أوهن من بيت العنكبوت". لم تُغيّر سطوة الحديد والنار هذه الحقيقة. صحيح أنّ المجتمعات التي تبنّت خيار المقاومة تدفع أثماناً باهظة، إلا أنّ الفارق يكمن في أنّ تضحيات أهل الأرض مهما بلغت لا تدفعهم إلى ترك أوطانهم، وإذا تمّ تهجيرهم قسراً فإنهم يتوارثون جيلاً بعد جيل مشروع العودة إليها. أما المستوطنون في كيانهم المؤقت فيتوارثون مشاعر القلق ومشروع الهجرة المعاكسة عند كلّ محطة مفصلية.

وبالتالي، يظلّ الخيار الوحيد لأهل الأرض هو مشروع المقاومة والتمسّك بالحقوق، لأنّ الأفق الوحيد المتاح يبدو في إفشال آلة القتل الإسرائيلية وتحويلها إلى عبءٍ مستمرٍ على مجتمعٍ استيطانيٍ يُراد له مواصلة القيام بالأعمال القذرة.