دور "الاستخبارات البشرية" للعدو في الحرب على غزة!
أجهزة استخبارات الاحتلال لجأت إلى تكثيف الاعتماد على العملاء والجواسيس، والذين يؤدّون دوراً محورياً لا غنى عنه في كلّ عمليات الاغتيال أو الاستهداف المختلفة.
-
أجهزة استخبارات الاحتلال لجأت إلى تكثيف الاعتماد على العملاء والجواسيس في غزة.
سلّطت عمليات الاغتيال الأخيرة، التي نفّذها "جيش" الاحتلال الصهيوني ضدّ قيادات وكوادر المقاومة في قطاع غزة، الضوء من جديد على منظومة الاستخبارات الإسرائيلية، والتي يُعرف عنها أنها ذات باع طويل، وخبرة كبيرة في مجال جمع المعلومات، والتجسّس على الخصوم، بالإضافة إلى وضع الخطط العملياتية التي تساعد على تنفيذ مهام الاستهداف بنجاح.
في الحرب العدوانية على غزة عانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من مشكلات حقيقية، ولا سيّما بعد الشهر الرابع من بدء القتال، حيث تمكّنت المقاومة الفلسطينية آنذاك من حرمان "جيش" الاحتلال من مروحة واسعة من المعلومات الاستخبارية، ونجحت بفضل "الاستخبارات المضادة" في إصابته بما يسمّى "العمى الاستخباري"، وذلك نتيجة الكثير من الجهد الذي بذلته أجهزة أمن المقاومة في هذا المجال، والذي شكّل صدمة لأجهزة الاحتلال، وقلّص إلى حدٍ بعيد عمليات الاغتيال والاستهداف الممنهجة، وحافظ على بعض التوازن على صعيد المعركة الأمنية الموازية للمعركة العسكرية.
بعد هذه المرحلة والتي استمرّت نحو خمسة أشهر، عاد التفوّق الاستخباري لصالح أجهزة أمن العدو، وعادت عمليات الاغتيال والاستهداف الممنهج للمقارّ والبنى التحتية للمقاومة إلى سيرتها الأولى، وهو الأمر الذي تواصل بعد انهيار اتفاق التهدئة في الثامن عشر من آذار/مارس الماضي، والذي افتتحته "إسرائيل" بسلسلة من عمليات الاغتيال التي طالت قيادات بارزة في المقاومة الفلسطينية، إلى جانب معظم مسؤولي العمل الحكومي في قطاع غزة.
تحدّثنا في مقال سابق عن كيفية نجاح "جيش" الاحتلال في استهداف قيادات المقاومة، وأشرنا إلى جملة من الأدوات التي يستخدمها في مجال جمع المعلومات على وجه التحديد، ومن بينها الطائرات المسيّرة، والتجسّس على الأجهزة الخلوية، ومراقبة الاتصالات، والرسائل النصّية والإلكترونية، ومسح مناطق معيّنة من خلال الأقمار الاصطناعية التجسّسية، إلى جانب استخدامه كاميرات حرارية حديثة ومتقدّمة مثبّتة على طائرات الاستطلاع، وأجهزة مراقبة مموّهة تمّت زراعتها في الكثير من مناطق القطاع أثناء توغّل قوات الاحتلال فيها.
بالإضافة إلى كلّ ما سبق لجأت أجهزة استخبارات الاحتلال وخصوصاً جهاز "الشاباك" إلى تكثيف الاعتماد على العملاء والجواسيس، والذين يؤدّون دوراً محورياً لا غنى عنه في كلّ عمليات الاغتيال أو الاستهداف المختلفة، وإلى تطوير آليات التجنيد لهؤلاء العملاء، واستحداث وسائل تواصل جديدة بينها وبينهم.
فيما يلي سنحاول تسليط الضوء بشكل خاصّ على هذه الظاهرة الخطيرة، والتي تصيب الجسد الفلسطيني في مقتل، وتؤدّي إلى خسائر كبيرة في صفوف المقاومين، ولا سيّما في ظل استمرار حلقات هذا العدوان، وتصاعد وتيرة استهدافاته وهجماته.
منذ تأسيس "دولة" الاحتلال على أرض فلسطين التاريخية قبل أكثر من 76 عاماً، ونتيجة عقدة الأمن التي أصابت المستوطنين الذين جاءوا من أصقاع الأرض المختلفة، وشعورهم بالخطر بسبب رفض محيطهم العربي والإسلامي لوجودهم في المنطقة، حرصت "إسرائيل" على إنشاء أجهزة استخبارات قوية ومهنية عالية المستوى، وركّزت بشكل ملفت على رفدها بكلّ الطاقات والقدرات الممكنة، لتتمكّن من مواكبة ومواجهة المخاطر المحيطة بـ "الدولة"، وتحفظها في وسط هذا البحر المتلاطم من التهديدات والأزمات.
منذ ذلك الحين شكّلت أجهزة الاستخبارات في الكيان الصهيوني الركيزة الأساسية له، واعتُبرت بمثابة الذراع القوية لـ "الجيش" الذي يستطيع من خلالها البطش بكلّ أعدائه، وتمّ النظر إليها على أنها عامل حيوي وفعّال في تحقيق الانتصارات، بل زاد الأمر عن ذلك، حيث عملوا على تحويلها إلى "أسطورة" غير قابلة للفشل أو الإخفاق.
وقد اعتمدت أجهزة الاستخبارات الصهيونية على أدوات عديدة لتنفيذ عملياتها، كان من أهمّها تجنيد العملاء والجواسيس في صفوف "أعدائها" القريبين والبعيدين، وهي ما يُطلق عليها في مجال الأمن "الاستخبارات البشرية"، حيث نجحت في زرع عدد كبير من هؤلاء الجواسيس في مراكز حسّاسة، ومؤسسات حيوية، ما مكّنها من الوصول إلى مراكز وأهداف تحظى بنظام حماية مرتفع في أحيان كثيرة، وهؤلاء الجواسيس بحسب نظرة الاستخبارات الإسرائيلية يُعتبرون بمثابة رأس الحربة في مواجهة "الأعداء"، ويمثّلون خط الهجوم المتقدّم الذي يحرز الأهداف، ويساهم في حسم نتيجة المعركة.
وقد نظر الكثير من قادة أجهزة الأمن والاستخبارات في "إسرائيل" إلى هؤلاء العملاء بأهمية بالغة، ووضعوهم في مصاف الشخصيات المؤثّرة التي تقدّم خدمات جليلة لأمن "الدولة"، واعتبروا أنّ المهام التي يؤدّيها جاسوس واحد فقط تساوي جهد ألف جندي في ميدان القتال، بل إنّ بعضهم قال إنّ فرق العملاء تجاوزت في التأثير عمل كتائب عسكرية بكامل عتادها وعديدها، لأنه من دون هذا الجاسوس تصبح كتائب "جيش" الاحتلال، ووحداته النخبوية عمياء، ويمكن برغم ما تملكه من تكنولوجيا متقدّمة وحديثة أن تتوه في مسارح العمليات التي أصبحت معقدّة أكثر من ذي قبل، وتحيط بها مخاطر جمّة من كلّ الجوانب.
في الحرب على غزة، والتي تستمر بفصولها القاسية للشهر التاسع عشر على التوالي، وبعد العديد من الخيبات والإخفاقات التي لحقت بأجهزة استخبارات العدو نتيجة الإجراءات المضادة من قِبل فصائل المقاومة، نجحت تلك الأجهزة في تحقيق الكثير من النجاحات، والتي شكّلت في بعضها مفاجأة غير سارة للفلسطينيين، كان من بينها اغتيال معظم أعضاء المجلس العسكري لكتائب القسام، وعلى رأسهم القائد محمد الضيف، إلى جانب رئيس المكتب السياسي لحماس يحيى السنوار، وغالبية أعضاء المكتب السياسي للحركة، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من كوادر وقيادات فصائل المقاومة الأخرى.
بحسب مصادر في المقاومة، فإن العنصر الأساس الذي ساعد في تنفيذ هذه الاغتيالات بنجاح، إضافة إلى الكثير من الاستهدافات الأخرى لمواقع سريّة وحسّاسة، هو المعلومات الدقيقة التي تلقّتها أجهزة أمن العدو من مصادرها البشرية "العملاء والجواسيس"، بعد أن فشلت خلال الأشهر الطويلة الماضية في الوصول إلى تلك الأهداف من خلال الاعتماد على التجسّس الإلكتروني، أو عبر الطائرات المسيّرة بمختلف أنواعها، وأنّ نشاط هؤلاء العملاء قد شهد نقلة نوعية خلال الأشهر الأخيرة، ما ساهم في نجاح الاحتلال في تحقيق إنجازات كانت بعيدة المنال عنه خلال المرحلة الماضية.
وهنا يأتي السؤال الأهم حول أسباب حدوث هذه النقلة في عمل الجواسيس والعملاء، وهل هي نقلة استثنائية ومؤقتة! أم أنها ستدوم طويلاً بما يكلّف المقاومة مزيداً من الأثمان والخسائر الفادحة؟
السبب الأول من وجهة نظري هو الاستهداف الممنهج لأجهزة أمن المقاومة، ولا سيّما تلك التي تُعنى بملاحقة العملاء والحدّ من خطرهم، والتي سبق لها وأن حقّقت نجاحات كبيرة في هذا المجال.
هذا الاستهداف الذي وصل في أحد مراحله إلى اغتيال مدير جهاز الأمن الداخلي، وهو الذي يُعتبر أكثر الأجهزة الأمنية في القطاع ملاحقة للعملاء، إلى جانب العديد من قيادات هذا الجهاز، بالإضافة إلى كوادر رفيعة في أجهزة أمن المقاومة المختلفة، ساهم في تخفيف قبضة أمن المقاومة على العملاء، ومنحهم حرية حركة أكثر من الفترة الماضية، بل ومكّن الكثير من العملاء السابقين الذين تمّ إغلاق ملفاتهم بعد "حملات التوبة" التي كانت تعلن عنها المقاومة بين الفينة والأخرى من العودة من جديد إلى التواصل مع الاحتلال، ولا سيّما أولئك العملاء الذين كانوا يقضون فترة محكوميّاتهم في سجون غزة، وتمّ الإفراج عنهم بداية الحرب حفاظاً على حياتهم.
إلى جانب استهداف قيادات أجهزة أمن المقاومة، فقد تمّ أيضاً استهداف معظم المقارّ الأمنية التابعة لها، والتي كانت تحتوي على أجهزة "الاستخبارات المضادة" التي ساعدت كثيراً في مراقبة العملاء، وملاحقتهم، والقبض عليهم متلبّسين في كثير من الأحيان.
ثاني الأسباب يعود لتوغّل "جيش" الاحتلال إلى قلب المناطق السكنية في قطاع غزة، والذي مكّنه من الاختلاط بالمدنيين الذين احتجز منهم الآلاف، وقام بإجراء تحقيقات قاسية معهم في أماكن احتجاز مؤقتة مثل المدارس والمستشفيات وبعض البنايات متعدّدة الأدوار، وفي أحيان أخرى تمّ اقتيادهم إلى مواقع أقامها "الشاباك" في مستعمرات الغلاف، ولا سيّما في مستعمرة "زيكيم" شمال غرب القطاع.
هذه التحقيقات نجح الاحتلال من خلالها في تجنيد عدد من العملاء الجدد، ولا سيّما من الذين لا يمتلكون أيّ خلفيّة أمنية، ولم يدركوا أنّ ما يقدّمونه من معلومات قد يشكّل ضرراً بالغاً على عموم السكّان وعلى المقاومين بشكل خاص.
أما ثالث الأسباب فهو الوضع الاقتصادي الصعب الناتج عن العدوان والحصار، والذي استخدمته أجهزة أمن الاحتلال لتطوير منظومة "الاستخبارات البشرية" لديها، إذ إنها مارست آلاف عمليات الابتزاز المالي تجاه السكّان المعوزين والمحتاجين، ورهنت تقديمها دعماً مالياً "شحيحاً" لهم مقابل ما يقدّمونه من معلومات عن المقاومة وقدراتها، وهي وإن لم تنجح سوى في حالات محدودة للغاية، إلا أنها كانت كافية للحصول على معلومات قيّمة وهامة للغاية.
كلّ ما سبق، إلى جانب الكثير مما لا يتّسع المجال لذكره تعرفه أجهزة أمن المقاومة بشكل كامل، وتحاول رغم ما تتعرّض له من ضربات واستهدافات التصدّي له، والحدّ من تداعياته ومخاطره، إلا أن هذا لوحده لا يكفي، إذ تتطلّب مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة جهوداً مستدامة يشارك فيها جميع أطياف الشعب، ومؤسساته الرسمية والمجتمعية، إلى جانب تعميم الثقافة الأمنية على كلّ المواطنين، وفي المقدّمة منهم فئة الشباب المستهدف الأبرز من قِبل أجهزة الاحتلال.
على كلّ حال، وعلى الرغم من خطورة ما تقوم به هذه الفئة القليلة من أدوار مدمّرة، إلا أننا على ثقة تامة من إمكانية التصدّي لها، ومحاصرتها، والتجربة الفلسطينية تشهد على الكثير من النجاحات في هذا الإطار.
الشعب الفلسطيني كما كلّ الشعوب الحرّة لم ولن يقبل وجود هذه الفئة بين ظهرانيه، وسيواصل العمل مع مقاومته الشريفة على التصدّي لها والقضاء عليها، مهما كلّفه ذلك من أثمان.