سوريا... تصدعات الهوية الوطنية ومآلاتها

حوارات الهوية والمواطنة والانتماء، وتعزيز الهوية الثقافية والوطنية، وسوى ذلك من النقاشات يجب أن تكون على مستوى النخب لا على مستوى العامة، وهذا ليس انتقاصاً من قيمة أحد.

  • الوطن في واقع الأمر، هو مثل الأب والأم اللذين يقدمان لأبنائهما من دون مقابل.
    الوطن في واقع الأمر، هو مثل الأب والأم اللذين يقدمان لأبنائهما من دون مقابل.

بناء الهوية الوطنية يحتاج إلى الاتفاق أولاً على ما يمكن أن نسميه "مبادئ دستورية ثقافية"، بل والاتفاق أيضاً على "المبادئ فوق الدستورية" في هذ المجال.

صحيح أن البنية الفوقية هي نتاج للبنية التحتية وفقاً لماركس، ومن الصحيح أيضاً أن بنيتنا التحتية باتت شبه مدمرة، لكن ذلك لا يعفينا على الإطلاق من الشروع في مشروع كهذا، مستفيدين من "تقنيات العصر" التي يمكن أن تؤمن لنا "بنية تحتية افتراضية" يمكننا استثمارها في المجال الثقافي.

كل الحروب تترك آثاراً سلبية على المجتمعات، لكن المجتمعات الحية هي التي تستفيد من دروس الحرب وتنتقل لبناء دولها ومجتمعاتها انطلاقاً من الإيمان المطلق بضرورة نسيان الماضي، وتعزيز ثقافة التسامح والحوار لبناء مجتمع التعددية. التعددية في كل شيء هي المقياس الحقيقي لحيوية المجتمعات وقدرتها على العطاء. 

حوارات الهوية والمواطنة والانتماء، وتعزيز الهوية الثقافية والوطنية، وسوى ذلك من النقاشات يجب أن تكون على مستوى النخب لا على مستوى العامة، وهذا ليس انتقاصاً من قيمة أحد.

لأن نقاشات كهذه تحتاج إلى فهم معمق وإدراك لما يعنيه الآخر في حديثه من أبعاد، بعيداً عن "ثقافة التخوين" أو تقييم الآخر بناءً على انتماءات "دون وطنية" في كثير من الأحيان.

ما أحوجنا اليوم إلى الاستماع إلى مختلف الآراء حول كيفية تكوين هوية وطنية جامعة وقادرة على تذويب جميع الهويات الفرعية التي سببتها الحرب في سورية وأسهمت سلوكيات البعض في تعزيزها.

طرح الموضوع فيه إيجابية كبيرة لجهة إدراك التصدعات التي أصيبت بها هويتنا الوطنية ليس بسبب هشاشتها بكل تأكيد، ولكن بسبب حجم الهجمة وشدة الاستهداف الذي تعرضت له.

هناك جزء من الأمن القومي هو ما يمكن أن نسميه" الأمن الثقافي". وأن الاهتمام بأمننا الثقافي يجب أن لا يقل في ظل الشعور بغياب التهديدات. فالتهديدات اليوم لم تعد عسكرية فقط أو اقتصادية، بل باتت القوة الناعمة أشد فتكاً وأقوى تأثيراً، فبات الإعلام أقوى أدوات الحرب، وأصبحت الثقافة الوطنية هي الأكثر تأثراً بذلك. 

المشكلة في إعلام ما بعد الحداثة أنه لم يعد ناقلاً للحدث فقط، بل صانعاً له، وهو المتحكم في مجرياته ومآلاته. لذا فقد باتت الحرب الإعلامية لا تقلّ خطورة عن المعارك العسكرية، كيف لا وهي من يسهم في صناعة الرأي العام الذي يقوم بدوره في الضغط على الحكومات لانتهاج سياسات معينة!

وفي ظل انتشار وسيطرة مواقع التواصل الاجتماعي، باتت الشركات المالكة لتلك المواقع هي المتحكم في الجمهور الذي بات مجرد سلعة، فقامت على "التلاعب بالعقول"، وخاصة أن غالبية تلك العقول كانت فارغة أو غير محصنة بالشكل الكافي، الذي يتيح لها إمكانية التمييز بين "السيئ والأسوأ"، في عالم بات فيه "الجيد" يكاد يكون غير موجود.

الانتماء...

الحديث عن الهوية يعني الحديث عن الانتماء، ومن الناحية العملية فإن كل إنسان منتمٍ بالضرورة، لكن هذا الانتماء ليس موحداً، بمعنى أن لكل إنسان انتماءات متعددة، فهو منتمٍ إلى الأسرة، وإلى مجتمع معين، ودولة محددة، ودين ولغة ووو...إلخ.

كل هوية يحملها الإنسان يترتب عليها انتماء لمن يتماثل معه في تلك الهوية، فكثرت الانتماءات وضعف الانتماء الأهم، وهو الانتماء إلى الوطن.

التنوع سر من أسرار الوطن، ومصدر من مصادر قوته، ورافد كبير لتعزيز التنوع الثقافي فيه. هذا التنوع يجب أن ينظر له على أنه عامل من عوامل القوة، لا مصدراً من مصادر الضعف.

"الأكثرية والأقلية" مفهوم سياسي، يطلق عادة على الأحزاب ومدى مساهمة كل منها في تشكيل الحكومة أو البرلمان. 

نقل هذا المفهوم إلى المجال الديني أو الديمغرافي خطيئة علمية ومنهجية، وعودة بالبلاد إلى ما قبل الدولة، حيث الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية...إلخ. مع الإشارة دوماً إلى أهمية وجود "الأقلية الفاعلة"، والتي تتغلب عادة على "الأكثرية المسترخية".

جدليات ثقافية..

تقوم الثقافة العربية بشكل عام على عدم المواءمة بين فكرة الحق والواجب، بمعنى أن المواطن لا يرى سوى حقوقه الواجب على الدولة صيانتها والحفاظ عليها، بينما ترى الدولة أن على المواطن العديد من الالتزامات من الواجب عليه فعلها وتطبيقها، كي يكون مواطناً صالحاً من وجهة نظرها. مع الخلط المتعمد هنا بين فكرتي الحكومة والدولة، فكل انتقاد للحكومة وسلوكياتها هو إضعاف للدولة وإساءة إليها، وهذا غير صحيح بكل تأكيد.

فكرة الصلاح لم تعد تعني بالضرورة مدى تمسك المواطن بقيمه واحترامه للقانون، بقدر ما باتت ترتبط بـ "الولاء" الذي أصبح مصدراً للاسترزاق في عدد كبير من الدول.

الولاء هنا لا يكون للوطن بكل تأكيد، بقدر ما يكون للنخبة الحاكمة التي يجب على الجميع لعب دور كبير في نشر ثقافة التبرير لتصرفاتها، وإعطائها صفة القداسة كي تكون عصية على النقد.

والمشكلة تصبح أكثر تعقيدأ وإساءة حين تكون تلك النخب أصلاً هي نسخ مشوهة، فرضت نفسها بالقوة نخباً في مجتمع بات يفتقر إلى وجود النخب الحقيقة. 

"العصيان على النقد" حوّل العديد من القضايا إلى "تابوهات" تعددت وتكاثرت وبشكل كبير، بعد أن كان هناك ثلاثة أنواع منها في ثقافتنا العربية، هي الدين والجنس والسياسة.

وفي حين أن العالم وصل إلى الحديث عن الذكاء الاصطناعي والحروب السيبرانية، وغيرها من التقنيات التي ترسم لنا مستقبل البشرية لمئات السنين المقبلة، ما زالت مجتمعاتنا مشغولة بحوارات الألفية الماضية.

بات الولاء يعني إيجاد حالة من الخلط المتعمد بين الحاكم والوطن، فأي انتقاد للحاكم هو انتقاد للوطن، وبالتالي هو ضرب من ضروب الخيانة على أقل تقدير.

إن "دولنة المجتمع" تعني هيمنة الدولة على مختلف أبعاد الوجود الاجتماعي، ما يولّد نوعاً من الاستبداد السياسي نعته توكفيل بالاستبداد الناعم.

فالسلطة، هي التي تعمل على تقوية الدولة أو انهيارها، بينما انهيار السلطة لا يعني انهيار الدولة متى ما كانت قوية وقادرة على حماية نفسها ومكتسباتها... كما أن بناء السلطة لنفسها لا يعني بناء الدولة، فقد تنجح السلطة في بناء نفسها وتحكم قبضتها وتفرض هيمنتها على المجتمع، ولكنها تفشل في بناء دولة قوية ذات عزة ومنعة وسؤدد وسيادة.

تغير مفهوم الوطن والوطنية...

نتج عن ذلك تغير في مفهوم الوطن والوطنية، فلم يعد الوطن هو المكان الذي ولد فيه الإنسان وحمل لغته وكان جزءاً منه.

هذا المفهوم رتب على المواطن الكثير من الأعباء والالتزامات تجاه وطنه، من دون أن يكون واضحاً ما هو المطلوب من الوطن، وما هي واجباته تجاه أبنائه، انطلاقاً من فكرة أن كل واجب يجب أن يقابله حق (والعكس صحيح).

التغاضي عن أخطاء الوطن وتجاوزاته، فالوطن دوماً على حق، وهذا صحيح تماماً، لكن الأخطاء الكبرى عادة ما تأتي من "الوطنيين"، أو مدعي الوطنية، وهم الأكثر إساءة للوطن ومن فيه. مع أهمية الاعتزاز بالوطن والوطنية والمواطنة، وضرورة إعادة الاعتبار إليها، فالوطن تاريخ وجغرافيا، وسياسة ودين، وذكريات لا يمكن أن تُنسى.

حب الوطن ليس مجرد شعار نرفعه، أو نشيد نتغنى به، بل هو حياة يومية نعشقها ونحياها، وهو الحب الذي لا يحتاج إلى تفسير، ولن نجد أسباباً تحول دون فعلنا لذلك.

المشكلة أن حب البعض لوطنه كان من نوع "الحب القاتل"، فالبعض أسهم في خراب وطنه وتدميره انطلاقاً من اقتناعه ربما بأن هذا العمل هو الطريق لخلق وطن أفضل.

أخطاؤنا بحق الوطن هي نوع من الأخطاء التي لا تغتفر، هي ليست مجرد خطأ، بل إنها ترقى إلى مرتبة "الخطيئة"، الخطيئة التي لا يزول دنسها إلا بنوع من العقاب.

الخطب والكلمات لم تعد مفيدة، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، فجيفارا خاطب الأمم المتحدة عام 1964 بكلمتين كانتا كافيتين لإيصال رسالته التي حملت معاني القوة التي لم يعد العالم يفهم لغة سواها، حين قال: "الوطن أو الموت". الموت في سبيل الوطن واجب، شرط أن تكون هناك مساواة حتى في الموت بين أبنائه.

ركزت ثقافتنا العربية، بل وربما تنشئتنا السياسية القائمة على "الأدلجة"، الهادفة إلى خلق نماذج متشابهة من الأفراد، ركزت على واجبات الفرد وحمّلته أعباء كبيرة، عليه القيام بها نوعاً من رد الجميل للوطن.

بينما الوطن في واقع الأمر، وفي كثير من الثقافات، هو مثل الأب والأم اللذين يقدمان لأبنائهما من دون مقابل، ولا يفرقان بينهم في شيء، بل حتى بعد وفاتهما، يكون هناك عدالة في توزيع ثرواتهما على الأبناء.

الرسول محمد صل الله عليه وسلم لم يكن وطنه مدينة مكة التي ولد فيها، بل اختار من المدينة المنورة وطناً له، كونها المكان الذي حمى له فكره (الرسالة)، وبقي فيها حتى مات ودفن هناك.

هذا الدرس يعطينا عبرة وحكمة لمن يريد أن يفهم معنى الوطن كحاضن لفكر الإنسان وحامٍ له، أما النظر إلى الوطن على أنه المكان فقط، قد يشابه بين الإنسان وسواه من الكائنات الأخرى التي لها وطن بكل تأكيد استناداً إلى هذا المعنى.