سوريا، خياران أحلاهما مُر...!

يبدو أن "إسرائيل" لا تستعجل الاستجابة لرسائل "الغزل" التي نقلها النظام السوري إلى "تل أبيب مؤخراً، أقله حالياً، ما دامت لديها اليد العليا في سوريا.

0:00
  • كف اليد الإسرائيلية عن سوريا لن يكون سهلاً.
    كف اليد الإسرائيلية عن سوريا لن يكون سهلاً.

خياران أحلاهما مر، أو على الأقل هكذا يبدوان لنا، ينتظران حكام دمشق الجدد فيما يخص العلاقة مع "إسرائيل".

بلورت "تل أبيب"، عقب سقوط نظام بشار الأسد، موقفاً سريعاً من الحالة السورية، مفاده عدم المغامرة بانتظار ما سيسفر عنه شكل وطبيعة النظام الآخذ بالتشكل في سوريا، أو المخاطرة بتحمل تبعات هذا الانتظار، إنما المبادرة والانتقال الفوري لصياغة محددات عامة تُمثل اشتراطات وسقوفاً لا يمكن لحكام دمشق الجدد تجاوزها.

عَمدت "تل أبيب" إلى استغلال، أولاً، الظروف والمناخات القائمة أصلاً في سوريا الخارجة من صراع داخلي طويل أنهكها اقتصادياً وعسكرياً ومجتمعياً، وثانياً، استغلال الظروف القسرية التي خلقتها "إسرائيل" نفسها بفعل احتلالها لجزء من الأراضي السورية وانقضاضها على أصول الدولة السورية، المدنية والعسكرية، وسحقها بنيران طائراتها فور سقوط نظام بشار الأسد.

كان التعويل الإسرائيلي على أن تجريد سوريا من مقومات وبنية "الدولة" وإعادتها إلى "المربع صفر إمكانات"، سيُشغل نظامها الجديد وشعبها بالبحث عن سبل الحياة والتمكين حصراً، فلا يعود لديهم القدرة على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية التي فرضتها "إسرائيل" على الأرض السورية وسعت إلى تثبيتها أمراً واقعاً يُشكل منطلقاً في تعاطيها مع الكل السوري ومع المحيط العربي والإسلامي.

أما أدواتها لفعل ذلك فكانت "الإخضاع بالنار"، عبر الوجود العسكري الفعلي على الأرض السورية واستمرار الاعتداءات والقصف الجوي، بهذه الذريعة أو تلك، والأهم، ذريعة حماية الأقلية الدرزية والتباكي على سلامتها، وهي ذريعة "دسمة" تحمل في طياتها أبعاداً بل أطماعاً سياسية إسرائيلية تكاد لا تُخطئها العين، إذ تستغلّ "إسرائيل" ،إلى الحدّ الأقصى الممكن، الأجواء الأمنية التي نشأت في سوريا لتلعب على وتر تأجيج النزاعات الطائفية بهدف تحقيق مآربها بالتوسّع والسيطرة.

إضافة إلى اتخاذ حماية الأقلية الدرزية شمّاعة لاستمرار الاعتداءات والتدخل العسكري في سوريا، كُلما وكيفما شاءت "إسرائيل"، تراهن "تل أبيب" على أن هذه الذريعة تشكل إغراءً "للبعض الدرزي" الذي يتساوق مع شهوة المال والسطوة الإسرائيلية لينسلخ عن هويته الوطنية العربية السورية عبر السعي إلى المطالبة بحكم ذاتي للدروز.

تعتقد "إسرائيل" أنها تستطيع أن تُنمّي هوية طائفية درزية انفصالية داخل سوريا بمساعدة قيادات درزية في "إسرائيل"، وهي ورقة تستغلها لتعمّق نفوذها وتأثيرها على الداخل السوري، وهذا أيضاً، في المدى البعيد يخدم الأجندة الإسرائيلية في التفتيت والتقسيم والسيطرة فيما لو جرت، جدلاً، ترتيبات سياسية أو أمنية ما مع "إسرائيل" وانسحبت مستقبلاً من الأراضي السورية التي احتلتها.

يرى قادة "إسرائيل" إمكانية تعزيز طموحهم بالحصول على حكم ذاتي كبير، وربما حتى إلى نوع من "الدولة الدرزية"، خاصة بعد أن طالب نتنياهو بمنطقة منزوعة السلاح جنوب سوريا، ويبدو أنّ الطريقة الفعلية التي تنوي "إسرائيل" من خلالها فرض هذا الأمر هي عبر عقد "عهد دم" مع الدروز في سوريا، كما فعلت مع الدروز في "إسرائيل". 

وفيما يحاول النظام السوري الجديد اليوم تثبيت دعائم حكمه والبقاء، يدرك، بل ويعلن صراحة، أن الدخول في مواجهة مع "إسرائيل" ليس في وارد حساباته، لا فقط بسبب عدم وجود ميزان قوى متكافئ، إنما بسبب ما يجري حوله في المنطقة والإقليم! 

فإن كانت دولٌ كبيرة وأنظمة عربية وازنة، تملك شرعية الاعتراف الدولي، والامكانات العسكرية والاقتصادية، تتجنب الدخول في مجابهة مع "إسرائيل"، بل ويدور بعضها مع الفلك الإسرائيلي حيث دار، فمن باب أولى للشرع الساعي خلف الاعتراف الدولي، وهو الذي ما يزال في قائمة الإرهاب في كثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أن "يضع رأسه بين الرؤوس"، وهو الذي يعلم يقيناً أن الطريق الى "قلب" الولايات المتحدة والغرب عامة، يمر عبر "المعدة" الإسرائيلية، ولو بثمن الجنوح إلى التسوية معها إذا اقتضت الضرورة.

والظاهر أن معضلة حاكم سوريا اليوم مركبة ومعقدة، فهو يريد بشدة الاعتراف الدولي ورفعه من قوائم الإرهاب، كمقدمة ضرورية وملحة لتثبيت حكمه، ومن ثم بناء أسس ومقومات الدولة، وهذا لن يكون إلا إذا كَفَّت "إسرائيل" أولاً وقبل كل شيء، يدها عن سوريا.

بينما تُصر "إسرائيل" على الحضور الدائم في سوريا، بمنطق القوة والنار، حتى تطمئن من أن سقف النظام السياسي السوري هو ما تريده وما تفرضه، وإلا فاستمرار التدخل والعبث، وخاصة أن الدبابات الإسرائيلية لا تبعُد عن القصر الرئاسي سوى بضع مئات من الأمتار، ونيران الطائرات الحربية الإسرائيلية تطال محيط قصر الرئيس السوري في دمشق.  

خلاصة القول، لا يملك الشرع رفاهية الاختيار بين مجابهة "إسرائيل"، أو الإعراض عنها، فهذا لن يُرضي تل أبيب الساعية إلى تفكيك سوريا وتفتيتها، فضلاً عن أنه لن يأتي لسوريا بما تطالب به من اعتراف سياسي دولي وإسناد اقتصادي، يضمن بقاء النظام واستقراره، وهو الذي يعاني أصلاً إشكالات الشرعية الداخلية.

وليس أمام الشرع، وفق ما تدفع إليه "إسرائيل"، سوى أن يأتيها مُطبّعاً، وخاصة أنها ستستمر في التدخل والضغط العسكري حتى تحصل على سلام سوري بأرخص الأثمان، أو سلامٍ قائمٍ على القوة والإخضاع وفق مُقاربة الرئيس ترامب حليف "إسرائيل".

لكن الجنوح "للسلم" ليس بلا أثمان، في الجانب السوري، خاصة لزعيم بنى صورته وحضوره في سوريا والمنطقة ككل، على فكرة محاربة "الطاغوت" ومجاهدة الأعداء والمعتدين، فكيف تستوي مصالحة "إسرائيل" مع عباءة الدين! ألم يعب ثوار سوريا وخصوم الأسد على النظام السابق، على سبيل المثال، أنه لم يطلق رصاصة واحدة على "إسرائيل"! فكيف سيبرر حكام سوريا التطبيع مع "تل أبيب" في حال حدث، في حين أن عدوهم اللدود بشار لم يفعل! 

الواقع أن كف اليد الإسرائيلية عن سوريا لن يكون سهلاً في ظل حالة الانتشاء والغطرسة التي تعيشها تل أبيب، المتسلحة بفائض القوة الهوجاء والتغطية والدعم الأميركيين، وهي التي تقول إن واحدة من أهداف حربها في الجبهات المختلفة التي تخوضها هي تفكيك سوريا. وعلى الأرجح، وإن كان خياراً مستبعداً، سيقود فتح جبهة مواجهة مع "إسرائيل" إلى فناءٍ سريع للإدارة السورية المؤقتة بحكم غياب مقومات هذه المواجهة، مادياً وشعبياً، ناهيك عن جملة التناقضات الداخلية التي ما زالت تعصف بالرئيس الشرع ونظامه.

ويبدو أن "إسرائيل" لا تستعجل الاستجابة لرسائل "الغزل" التي نقلها النظام السوري إلى "تل أبيب مؤخراً، أقله حالياً، ما دامت لديها اليد العليا في سوريا، فلا أثمان تدفعها، ولا نقدٌ يطالها، من جهات دولية ترى هي الأخرى في استمرار عجز النظام عن حماية الأقليات السورية مبرراً لاستمرار الشك في طبيعته "الجهادية" ونواياه.