صناعة الأكاذيب النووية
في زمنٍ تتسارع فيه الأكاذيب أسرع من الصواريخ، تصبح الحقيقة هدفاً صعب المنال، ويتطلّب الوصول إليها عقلاً نقدياً ويقظة متجدّدة.
-
لم تُصنع الأكذوبة لتبرير الحرب فحسب، بل لإعادة رسم خريطة النفوذ في الإقليم.
في عام 2003، وقف وزير الخارجية الأميركي كولن باول، ماسكاً بيده قارورة صغيرة زاعماً أنها تحوي بكتيريا الجمرة الخبيثة، مستعرضاً خرائط وتقارير تؤكّد أنّ العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. وبشكل صادمٍ، اعترف باول لاحقاً أنّ ما أبرزه من أدلة لم يكن سوى جزء من أكبر عملية تضليل استخباري وإعلامي لتبرير الغزو. ووفقاً لتقديرات نشرتها مجلة لانسيت في العام 2006 والتي أكّدتها منظّمة ORB الدولية في العام 2007، فقد قُتل حينها أكثر من 600 ألف مدني عراقي، وتحوّل العراق إلى ساحة مفتوحة للفوضى والتطرّف.
لم تُصنع الأكذوبة لتبرير الحرب فحسب، بل لإعادة رسم خريطة النفوذ في الإقليم وفق مصالح القوى الكبرى، من دون أن يكون للمواطن العراقي أيّ نصيب من قرار الحرب ولا من مغانمها.
بعد عقدين، تُعاد المسرحية نفسها بعنوان جديد يتصدّر نشرات الأخبار ومنصات التواصل: "إيران على بُعد أشهر من القنبلة النووية". فمنذ سنوات طويلة، تضخّ "إسرائيل" ومعها دوائر ضغط غربية تقارير وتسريبات تزعم أنّ طهران تتجاوز الخطوط الحمر في تخصيب اليورانيوم. ومع كلّ موجة تصعيد جديدة، يُعاد تسويق هذه القصة لإقناع الرأي العام بضرورة تشديد العقوبات أو تنفيذ عمليات اغتيال وتخريب داخل إيران.
لكنّ أحدث تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نيسان/أبريل 2025 أظهرت بوضوح أن مستوى التخصيب لم يتجاوز 60%، وهو بعيد تقنياً عن مستوى الأسلحة النووية البالغ نحو 90%. وهنا لا بدّ من التساؤل إذا كان الغرب يريد حقاً إغلاق هذا الملف جذرياً، أم أنّ التذرّع بخطر إيران يشكّل حجّة مناسبة لإدامة قواعده العسكرية وحماية سوق سلاحٍ مفتوح وهيمنة أمنية واقتصادية للمنطقة؟
وكما وُظّفت أسطورة أسلحة العراق، تبرز اليوم ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحداث الميدانية. فحين استهدفت إيران مؤخراً منشآت عسكرية بالقرب من مركز سوروكا الطبي، سارعت "إسرائيل" ومعها دولٌ غربية عديدة إلى إدانة الضربة واعتبرتها جريمة حرب.
في المقابل، دمّرت "إسرائيل" أكثر من 25 مستشفى ومرفقاً طبياً في غزة وقتلت العشرات من الأطباء والمرضى والمسعفين وفق تقارير "هيومن رايتس ووتش" و"أطباء بلا حدود"، لم يجد أحدٌ غضاضةً في أن تدكّ "إسرائيل" مستشفيات غزة واحدةً تلو الأخرى أمام مرأى العالم، فتُدمَّر المنشآت الطبية ويُقتل الأطباء والمرضى بلا رادعٍ ولا مساءلة. هكذا يسوق الجلّاد الذرائع ليؤدّي دور الضحية كلما اقتضت الحاجة، وتُوصم المقاومة الوطنية بالإرهاب، بينما يُبرَّر إرهاب الدولة باعتباره دفاعاً مشروعاً عن الأمن القومي.
مثل هذه الأمثلة ليست جديدة على تاريخ الأزمات والحروب في المنطقة. ففي ليبيا عام 2011، تكرّرت اللعبة نفسها حين شاعت تقارير استخباراتية عن نيّة القذافي استخدام أسلحة كيميائية ضد مدن متمرّدة، وهي رواية لم تتمكّن أيّ بعثة أممية من إثباتها لاحقاً.
وفي سوريا، ظلت اتهامات الهجمات الكيميائية تتكرّر في توقيتات حرجة لتبرير ضربات عسكرية سريعة، بينما بقيت آليات التحقّق الدولي مقيّدة ومعقّدة. وأيضاً، في حرب الخليج الأولى عام 1990، رُوّجت قصة مأساوية شهيرة عن جنود عراقيين اقتحموا مستشفى كويتياً وانتزعوا الرُضّع من الحاضنات وتركوا الأطفال يموتون، وهي القصة التي أثبتت التحقيقات لاحقاً أنها شهادة مفبركة دُبّرت ضمن حملة علاقات عامّة منظّمة لدفع الرأي العام الأميركي إلى تأييد الحرب.
هكذا تُدار الأكاذيب وتُسوّق حتى تتحوّل إلى مسلّمات يوافق عليها الجمهور بلا تمحيص، تماماً كما فسّر الأكاديميان الأميركيان إدوارد هيرمان (خبير الاقتصاد السياسي والإعلام) ونعوم تشومسكي (المفكّر الشهير) ذلك في نظرية صناعة القبول (Manufacturing Consent) التي تشرح كيف يعيد الإعلام الموجَّه ترتيب الحقائق ويضخّم الأكاذيب ويصوغ السرديات بهدف صناعة موافقة الرأي العام على خيارات السلطة.
وسط هذا الفيض من الأكاذيب المصمّمة بذكاء، يصبح الدم رخيصاً وتضيع الحقيقة في بحر المعلومات المضلّلة، فيدفع الأبرياء الثمن بأشكالٍ مختلفة، موتٍ ودمارٍ ونزوحٍ وفقدان الأمل، وتتحوّل الصحافة المستقلة إلى صوت خافت وسط آلات الدعاية الجبّارة، وتتكاثر الأكاذيب بسرعة في عصر منصات التواصل الاجتماعي لتغدو واقعاً يصعب نقضه. والمؤلم أنّ المواطن العربي يظل الحلقة الأضعف، يتحمّل ضريبة هذه الأكاذيب في أمنه وفرص أبنائه ومستقبل بلاده.
قد تختلف الجهات التي تصنع الأكاذيب وتغلّفها بالشعارات، لكنّ الخسارة واحدة. ولا يعني فضح طرفٍ ما أنّ الآخرين أبرياء من هندسة الأضاليل، فالجميع شارك في صناعة الأوهام ليشتري وقتاً أو نفوذاً أو استقراراً هشّاً.
ففي زمنٍ تتسارع فيه الأكاذيب أسرع من الصواريخ، تصبح الحقيقة هدفاً صعب المنال، ويتطلّب الوصول إليها عقلاً نقدياً ويقظة متجدّدة، وهو تحدٍّ بالغ الصعوبة في ظلّ الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية والاجتماعية التي تفتّت المجتمعات العربية.