عامان على الطوفان... 3 أسئلة مكررة!
عامان على الطوفان، وما زالت الأسئلة الكبرى تلقي بظلّها الثقيل علينا؛ وما زال العالم يطوّر إجاباته. الجميع يتلمّس آفاق المستقبل بعد الحدث الكبير، وينبش من جوفه إمكانات واحتمالات المستقبل.
-
الطوفان خلق حالة غير مسبوقة من الاستعصاء، وترك الجميع يطورون إجابات المستقبل.
هل كان التوقيت سليماً ؟
يقول تيار أول؛ قبل لحظة الطوفان، كانت "إسرائيل" تعيش لحظة اضطراب داخلي غير مسبوقة، صعوبات مستمرة في تشكيل الائتلافيات الحكومية، تظاهرات للمستوطنين ضد التعديلات القضائية، ترتيبات أميركية في التخفّف من أعباء المنطقة والتركيز أكثر على روسيا والصين، وصول معادلة الرّدع، تحديداً في لبنان، إلى مستويات غير مسبوقة، مُسيّرات حزب الله تمنع "إسرائيل" من استخراج الغاز من حقل كاريش، خيمة لا يجرؤ الاحتلال على مساسها، ستاتيكو سوري منذ عام 2017 لا يحمل دلالات تحولات مفاجئة، وسيطرة خيارات الدبلوماسية على آفاق التعامل الأميركي مع الملف النووي الإيراني، تطورات في إمكانات الإدارة ومنظومة الحكم لحكومة صنعاء، حتى مع استعصاء الوصول إلى صيغة حل داخلي على امتداد جغرافيا اليمن، ثبات قوة المقاومة في العراق، حتى مع الضغوط الأميركية المتكررة.
مع كل هذه المعطيات؛ يقول هذا التيار؛ إنّ توقيت اللحظة لم يكن مناسباً، وكان الأصل إعطاء فرصة زمنية لتعاظم الزخم في هذه الاتجاهات المذكورة.
يقول تيار ثانٍ، ما حدث كان سيحدث؛ مع الطوفان ومن دونه، وكان من الأنسب أن تكون لحظة المبادرة للمقاومة الفلسطينية ( وأقول المقاومة الفلسطينية وليس المحور، لأنها المالك الحصري للّحظة، وجبهات الإسناد فتحت كاستجابة أخلاقية ، سريعة وحاسمة لها).
تستند هذه الفرضية على مجموعة من الاستدلالات المنطقية، منها:
أن اتفاقات أبراهام في المرحلة السابقة للطوفان، تجاهلت مبدأ عدم الموافقة على هذا النوع من الاتفاقيات قبل حل القضية الفلسطينية، حتى لو بمنطق "حل الدولتين" الذي تشجعه هذه الحكومات. وهذا القفز غير المسبوق للدول الموقعة، مع ارتفاع منسوب الحديث الإعلامي عن زحف الاتفاقات باتجاه السعودية، أعطى إشارات قوية على إمكانات تصفية القضية الفلسطينية في سياق الاتفاقات الموقعّة.
تصريحات ترامب المتكررة بشأن غزة، على اعتبارها "ريفييرا الشرق الأوسط"، تتسّق مع ما ذهبت إليه أطروحات هذا التيار، على أن للجرائم الإسرائيلية في القطاع هدفاً دولياً أيضاً، أساسه الممر الهندي لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو الممر الذي لا يحتمل وجود تنظيمات مقاومة مسلحة في مساره.
من عمليات البايجر في لبنان، واستشهاد القادة، إلى السقوط المفاجئ للنظام في سوريا، إلى إطلاق المسيرات من داخل الأراضي الإيرانية خلال الحرب على إيران؛ كل ذلك يدلل على أن بذور العمليات الاستخبارية كانت مزروعة قبل لحظة طوفان الأقصى نفسها. وزراعتها لم تكن لغايات "احترازية"، وإنما لغايات هجومية، وهذا ما يتفق مع التحليلات العسكرية بشأن تطوير "العقيدة الأمنية الإسرائيلية" لتضييق الفجوة بين المهمات الاستخبارية وقرارات إعلان الحرب وإطلاق النار.
الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة لم تكن متناسبة مع حجم عملية الطوفان؛ ومع أن "إسرائيل" تعمل دائماً على خلق هذا النوع من الفجوات، لكن الفجوة هذه المرة كانت غير مسبوقة، تحديداً إذا ما أضفنا إلى ذلك، الحالة الإسرائيلية غير المسبوقة من تجاهل ضغط ورقة الأسرى لدى المقاومة. كل ذلك يؤشر على أن الطوفان استعجل فقط تنفيذ مخطط استراتيجي إسرائيلي، كان سيُنفذ في كل الأحوال، ولذلك حتى ورقة الأسرى باتت ضعيفة الأولوية أمامه.
بين فرضيتين ونظريتين للتحليل، خرجنا بعد لحظة الطوفان، مرة واحدة وإلى الأبد، من ستاتيكو ما كان من الممكن له أن يستمر، وخرجنا من تمييع القضية الفلسطينية كخطوة سابقة لتصفيتها، فهل كانت لحظة الخروج دقيقة؟ سيبقى الجدل مستمراً..
هل آليات المواجهة غير المتناظرة عملت بفعالية؟
المقاومة الفلسطينية كانت تعلم أن المواجهة لن تكون مختصرة في يوم واحد، ولن تكون محدودة في إطار صفقة تبادل تحت ضغط ورقة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، وينتهي الأمر كله. كان من المتوقع أن تذهب "إسرائيل" إلى تصدير استعراضي لصورة "الدولة المجنونة" أو (الكلب المسعور) بتعبير موشيه دايان، وتلقي هذا الكم الهائل من المتفجّرات على قطاع غزة. لم يستغرب أحد ذلك !
لذلك؛ لم تراهن المقاومة في غزة على سباق مع "إسرائيل" في مراكمة مؤشرات القوة الكمّية، وإنما ركّزت على عناصر الصمود والاستنزاف والحرب غير المتناظرة؛ وفي الحرب غير المتناظرة اعتمدت أساساً على عناصر محددة؛ توظيف شبكة الأنفاق، والاشتباك من المسافة صفر، والأفخاخ والعبوات الناسفة والألغام، وقذائف الهاون وقذائف الياسين 105، وعدد محدود من الصواريخ.
مرّ عامان على الطوفان، ولم نعد نشاهد فيديوهات الياسين 105 بالوتيرة نفسها، ولكنها استمرّت طويلاً في الميدان في ظل ظروف حصار قاتلة. بات الاعتماد على الكمائن والاشتباك من المسافة صفر خلال الفترة الماضية أعلى من الاعتماد على الياسين 105. لا أحد يعلم على وجه الدقة كم تبقى من شبكات الأنفاق؛ ربّما إلا عناصر محددة في القسام، ومع ذلك تشير أغلب التقارير المختصة، أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تتمكن من تحييد أكثر من 25% من شبكة الانفاق في القطاع، ويقول تقرير مجتمع الاستخبارات الأميركي ، إن المهمة تحتاج إلى سنوات.
إذا كان السؤال عن مدى فعالية المواجهة غير المتناظرة من حيث المبدأ، فالإجابة هي حتماً فعّالة، ولا سيما عندما تتسبب في كم من الاستنزاف على المجتمع الاستيطاني؛ ولكن ما جرى مع المقاومة أن حالة الحصار، التي مارسها بعض العرب، ولم يسهم في فكّها بعض العرب، فضلاً عن التنسيق الاستخباري المستمر مع واشنطن وتل أبيب، هو ما أفقد المقاومة الفلسطينية الكثير من مزايا الحرب غير المتناظرة، التي أثبتت فعاليتها في محطات تاريخية أخرى. حتى في حالة المقاومة الفيتنامية التي واجهت الاحتلال الأميركي بمنطق عدم التناظر، لم تكن محاصرة ولم تقطع عنها خطوط الإمداد كما هي الحال مع المقاومة الفلسطينية في غزة، لذلك كانت مستعدة لأن تستمر في المواجهة الميدانية عقوداً، لا تحتمل الولايات المتحدة تكلفتها.
لو مُدّ شريان حياة واحد إلى غزة، لو كُسر حتى جزء من الحصار وليس كله، ولو اتُخذت خطوات من الحكومات الرسمية العربية، أقلّه بالضغط الدبلوماسي على الولايات المتحدة وكيان الاحتلال، لعملت منظومة استنزاف "إسرائيل" بفعالية أعلى؛ سواء لجهة الاستنزاف العسكري ( القتلى من قوات الاحتلال)، أو السياسي ( تراجع مؤشرات الاستقرار السياسي political stability index والعزلة الدولية لكيان الاحتلال) أو الاجتماعي ( الذي أصلاً ضرب مستويات غير مسبوقة من الهجرة العكسية).
لم تقدم الحكومات العربية شيئاً، وتفرّجت على الحرب على جبهة المقاومة في إيران واليمن والعراق وسوريا ولبنان؛ بل وشاركت في محاولات إضعاف هذه الجبهات.
لا تُلام المقاومة الفلسطينية ميدانياً، ولا تُلام جبهات الإسناد التي ضحّت بكل ما تمتلك لدعم غزة، من يُلام هو الحكومات العربية التي كانت تستطيع أن تلعب دور "بيضة القبّان"، وبتكلفة قليلة!
خطة ترامب... ماذا بعد؟
حال صدور بيان حركة حماس في الردّ على خطة ترامب، كنا أمام ساعات طويلة من امتحان معقّد في اللغة؛ تضمّن البيان تصديراً افتتاحياً بالموافقة على صفقة تبادل ضمن محددات الخطة، وكانت تلك خطوة مرنة متكيّفة مع تطورات الواقع، لجهة غياب الإسناد العربي (باستثناء محور المقاومة بتنظيماته ودوله)، ولجهة ما اعتبره عدد من الباحثين تحول الأسرى من ورقة ضغط إلى عبء؛ وكأنّ عصفاً ذهنياً دار حول خيارات مواجهة كيان الاحتلال مع ذريعة مستمرة عنوانها الأسرى، أو مواجهة عنوانها التفاصيل الأخرى المتبقية.
حتى لو تمّّت صفقة التبادل، فالمواجهة على أساس باقي التفاصيل ،بصرف النظر عن مستواها التدميري، مستمرة ( إعادة الإعمار، حكم غزة بين صيغة "المندوب السامي" والقرار الفلسطيني، الظروف المعيشية للإنسان الفلسطيني في غزة، سلاح المقاومة).
في المراحل الأولى من الطوفان، كان السؤال يدور حول مستقبل غزّة، ولكن السؤال تمدّد بعد ذلك ليدور حول مستقبل فلسطين؛ ولا سيّما مع جنون التوسع الاستيطاني والأرقام المرعبة التي تنشرها المنظمات الدولية عن عدد المنشآت الفلسطينية المخلاة والمهدّمة في الضفة الغربية، وليست عاصفة الاعتراف بالدولة الفلسطينية أوروبياً إلا تطويراً للإجابات التي خلقتها حالة الاستعصاء.
"إسرائيل" والولايات المتحدة لا تريدان فقط نزع سلاح المقاومة، بل تريدان إنهاء المقاومة كفكرة، وغالباً ما يتم الحديث عن "نزع الراديكالية" من المجتمع لا من عناصر المقاومة، (de radicalization of the society)، حتى أن ترامب في مستهل خطته، لم يتحدث عن حماس "كتهديد (لجيرانها)"، وإنما عن غزة!
كل الحروب التي تستهدف بنية المجتمع وبقاءه تطول، ويكون انتظار النتائج الاستراتيجية فيها مكلفاً ومؤلماً للغاية؛ ولكن ما فعله الطوفان، أنه خلق حالة غير مسبوقة من الاستعصاء، وترك الجميع يطورون إجابات المستقبل.
فـ "ماذا بعد"؟ هو سؤال ممتدّ على زمن الطريق اللازم للتحرير. سؤال مستمر يفجّر معه إجابات مرحلية وأخرى استراتيجية؛ إجابات مغسولة بالعرق والدماء والدموع...
كان من المؤكّد أننا، في لحظة ما، سنغادر المواجهة على الحافّة ضد الاحتلال؛ قرّرت القسام اللحظة، وانتهى الأمر، ولم تعد النظرة إلى ما قبل السابع من أكتوبر تحدث فرقاً كبيراً، إلاّ لجهة قراءة التاريخ اللازمة لفتح أبواب المستقبل.