عن الخروج من رحم الإذلال الاستراتيجي!

الذاكرة الصينية المشحونة بغياب العدل وعدم المساواة والإذلال كانت دافعاَ ووقوداً للتأسيس للمستقبل. وهي جاهزة للاسترجاع مع كل محطة حتى لا يعيد التاريخ نفسه.

0:00
  • التنين الصيني انتفض من خلال سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية.
    التنين الصيني انتفض من خلال سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية.

يحفل التاريخ القديم كما الحديث بمحطات حملت الإذلال المتعمد لدول هي للمفارقة مرشحة اليوم لقيادة العالم. 

نتحدث هنا عن الصين التي عانت المرارة من جبروت و"بلطجة" الدول الغربية على أراضيها. بعض المفاصل التاريخية تستوجب الاستدعاء، ففيها من الدروس والعبر ما نحتاج إليه اليوم. الذهنية الغربية بما تحمله من استعلاء وتعدٍ واستغلالٍ للغير لم تتغير، وإن تغيرت مكانة الدول وميزان القوى العالمي. 

بدأت القصة في القرن التاسع عشر، مع إصرار بريطانيا العظمى على توسيع أسواقها التجارية ونهمها لاستيراد الشاي والحرير الصينيين مقابل اكتفاء بكين بما لديها من سلع، ورفض الاستيراد ممّن اعتبرتهم "البرابرة". لم تقبل بريطانيا بهذا الاكتفاء، وهي التي تسعى إلى تجارة تخفف من وطأة تكاليف وارداتها، والعجز في ميزانها التجاري، بسبب فائض الصادرات الصينية. فما كان منها إلا أن استخدمت أقذر سلاح على الإطلاق، سلاح الأفيون. 

نشطت تجارة الأفيون في الصين بقوة السلاح، ونمت أزمة أخلاقية-اجتماعية، وهي إدمان الشعب الصيني، وأخرى اقتصادية؛ وهي خروج الفضة من الصين لدفع تكاليف الأفيون.

 تحرك الإمبراطور الصيني، فأصدر مرسوم تحريم استيراده وأحرق صناديقه في "كانتون". واندلعت "حرب الأفيون الأولى" ( 1839-1842) بين الصين وبريطانيا، وانضمت فرنسا إلى حرب الأفيون الثانية (1856-1860) إلى جانب بريطانيا والتي يُطلَق عليها أيضاً اسم "حرب السهم" (نسبة إلى اسم السفينة البريطانية التي كانت السبب في الصراع).

كانت النتيجة لكل ذلك وفاة 120 ألف صيني، واتفاقيات تجارية مذلة لبكين عُرفت باسم "المعاهدات غير المتكافئة" (نانكين 1842 وبيجين 1860)، وتضمنت فتح الموانئ الصينية على مصاريعها أمام التجارة الأجنبية، وسيادة بريطانية على هونغ كونغ، إضافة إلى تقنين تجارة "السم". 

هل انتهى الأمر عند التدخل البريطاني – الفرنسي؟ أبداً، لأن الصين كانت هدفاً للقوة الغربية، وكانت محطّ أطماع أكثر من دولة؛ وخلال تلك الفترة الزمنية، حصلت القيصرية الروسية من خلال معاهدة أيغون (1858) على كامل الضفة اليسرى من ضفاف نهر آمور والأراضي التي تفصل هذا النهر عن كوريا الشمالية، وبنت مدينة فلاديفوستوك أي "سيطرة الشرق". تلتها حرب صينية يابانية عام (1894)، وانتفاضة الملاكمين عام 1900 التي لم يجد فيها الصينيون لمواجهة القوى الأجنبية إلا فنونهم القتالية التقليدية، وبعد ذلك احتلت اليابان منشوريا عام 1931، وارتكب اليابانيون فيها الفظائع، وكانت مجازر نانكين في العام 1937.

باختصار؛ عُرف القرن التاسع عشر بـ "قرن الإذلال الوطني". بعضهم يقول إنه امتدّ إلى تاريخ إعلان جمهورية الصين الشعبية في العام 1949، وآخرون يمدّون الفترة إلى عام1997، تاريخ استعادة هونغ كونغ. 

تغيّر حال الصين بعد انقضاء ذلك القرن، وثبت خطأ ما قاله هيغل "أن لا مكان لأي تطور في الصين". وأخطاء هيغل في تصنيف الحضارات والشعوب قاتلة. 

انتفض التنين الصيني من خلال سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بقيادة دينغ شياو بينغ، وكان أهم ما رافقها  التركيز على التعليم والبحث والتطوير؛ فيما عرف ببرنامج التحديثات الأربعة (الزراعة، والصناعة، والدفاع، والبحث العلمي)، وربما أهم ما أسهم في النهضة الصينية، هو التصالح المتتابع في كل محطة مع المحطة التي سبقتها، فعلى الرغم من أن نهج ماو تسي تونغ كان مختلفاً عن صن يات صن، إلا أنه أحدث حالة تصالح مع إرثه، وعلى الرغم من أن نهج دينغ شياو بينغ يتباين مع ماو تسي تونغ، بل كان خصمه السياسي، إلا أنه تصالح وراكم على فكرة الخطط الخمسية التي اعتمدها ماو في الاقتصاد. (يختلف ذلك تماماً عمّا نشهده اليوم مما يجري في الولايات المتحدة، وخطاب دونالد ترامب، الذي لا يوفر فرصة في انتقاد سلفه جو بايدن، وينعته بالغبي)

حان وقت استرداد الكرامة، فكان عام 2009 عام الإشارات والرموز المعنوية بامتياز، وفي الاستعراض العسكري خلال ذلك العام كان على كل جندي صيني أن يخطو 169 خطوة، وهو الرقم المطابق لعدد السنوات التي تفصل الصين عن حرب الأفيون التي تواجهت فيها مع أوروبا. 

 وفي ذلك العام أيضاً، استردت الصين القطع المسروقة من حول العالم والتي نُهبت من قصر الإمبراطور الصيفي على أيدي الإنكليز والفرنسيين والأميركيين والروس والألمان واليابانيين والنمساويين. 

كانت الذاكرة الصينية المشحونة بغياب العدل وعدم المساواة والإذلال دافعاَ ووقوداً للتأسيس للمستقبل. وهي جاهزة للاسترجاع مع كل محطة حتى لا يعيد التاريخ نفسه؛ فلدى بكين اليوم ثوابتها السيادية التي لا تقبل النقاش، تحديداً من قبل القوى القديمة، ومنها إمساكها التام بنظامها، ووحدة أراضيها، وحقها في التنمية من دون قيد أو شرط.

وكما التاريخ الصيني، يحفل التاريخ الروسي بمحطات من الإذلال، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ فلم يكن لأحد أن يتوقع مشهد الروس يعانون من نسب استثنائية في الانتحار والجريمة، وتناقص أعداد السكان والفقر، ولم يكن أحد يتوقع أن تُقضم أراضي الاتحاد السابقة بهذه الوتيرة السريعة، لتكون ضمن حلف الناتو؛ وربما هذا ما يفسر إصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عدم النظر الى الخلف في حربه في أوكرانيا، إلا لشحذ الذاكرة المثقلة بالمشاهد المذلة.    

ولأن الحرب الغربية بنسختها الجديدة، كما يقول الكاتب الفرنسي برتران بديع في كتابه "زمن المذلولين"، لا تهدف الى إبراز القوة، وإنما إلى التجريم، وبالتالي الى الإلغاء والحطّ من مكانة الآخر؛ فلن يقبل أحد الهزيمة؛ أيّاً كان هذا الطرف؛ سواء أكان دولة، كما كانت الحال مع الصين وروسيا، أم في حالة مقاومة ترفع شعار "هيهات منّا الذلة"! 

الكاتب نفسه نقل استشرافاً على لسان الألماني "قسطنطنين فهرنباخ" يصلح ليومنا هذا والحروب الدائرة ضدنا، "تذكروا جيداً أيها الأعداء أنه من عظام الأموات ينبعث منتقم".