عندما هزم الشعب العربي الانكسار في يونيو ليبدأ عصر الانتصارات

هزيمة يونيو 1967 أو النكسة كشفت بوضوح معدن الشعوب العربية، إذ انتفضت الشعوب العربية في وجه الهزيمة أو النكسة، محتضنة الأمل والإصرار، ساعية إلى تحقيق النصر الذي يمثل لها معنى البقاء والتقدم.

  • حرب الاستنزاف.. البداية نحو التحرير.
    حرب الاستنزاف.. البداية نحو التحرير.

في لحظات الصعاب التي تختبر قدرة الإنسان على الصمود والتحدي، تظهر الشعوب الحية بأبهى حللها، فهي لا تتراجع أمام الهزائم، ولا تستسلم للظروف القاسية، بل تنهض بقوة وإصرار نحو مبتغاها: النصر المؤزر. إنها روح التحدي والإرادة الصلبة التي تمنح الشعوب القدرة على تحويل اليأس إلى فرصة، والتعثر إلى حافز للتقدم.

هزيمة يونيو 1967 أو النكسة كشفت بوضوح معدن الشعوب العربية، إذ انتفضت الشعوب العربية في وجه الهزيمة أو النكسة، محتضنة الأمل والإصرار، ساعية إلى تحقيق النصر الذي يمثل لها معنى البقاء والتقدم.

لقد مُنيت الجيوش العربية في حرب الأيام الستة في الخامس من يونيو/حزيران 1967 بهزيمة ثقيلة، إذ احتلت القوات الإسرائيلية أراضي واسعة من الدول العربية، بما في ذلك شبه جزيرة سيناء المصرية، وقطاع غزة، والضفة الغربية، ومرتفعات الجولان السورية. هذه الأحداث أدت إلى صدمة وغضب شعبي كبير في مصر وغالبية الدول العربية.

الخلفية والأحداث

بعد الإعلان عن الهزيمة، قدم الرئيس المصري جمال عبد الناصر استقالته في خطاب بثته الإذاعة والتلفزيون، معلناً تحمله كامل المسؤولية عن الهزيمة العسكرية، غير أن هذا القرار أثار موجة من المشاعر الوطنية بين الجماهير المصرية التي رفضت قبول استقالة ناصر، معتبرة أنه القائد الوحيد القادر على مواجهة التحديات المستقبلية واستعادة الأراضي المحتلة.

في التاسع من يونيو/حزيران، وفور الإعلان عن الاستقالة، خرجت حشود هائلة من جموع الشعب المصري بكل قطاعاته إلى الشوارع في تظاهرات عفوية في العديد من المدن والقرى، وزحف بعضها إلى القاهرة، فكانت التظاهرة الأضخم.

خلال التظاهرات الحاشدة، رددت الجماهير شعارات تؤكد تمسكها بقيادة عبد الناصر وتطالب بعدوله عن الاستقالة، وترفض الهزيمة وتطالب بتحرير كامل الأراضي المحتلة. شملت الشعارات: "ناصر، ناصر"، و"بالروح بالدم نفديك يا ناصر"، و"حنحارب.. حنحارب.. كل الناس حتحارب".

 كانت هذه التظاهرات تعبيراً قوياً عن الولاء والثقة بقيادة ناصر، رغم الهزيمة الثقيلة التي تعرضت لها البلاد، ومثلت التظاهرات رفضاً قاطعاً للهزيمة ودعوة لتحرير كامل التراب الوطني.

لقد مثلت هزيمة يونيو/حزيران 1967 أو النكسة نقطة تحول حاسمة في التاريخ العربي الحديث، إذ كشفت عن معدن الشعب العربي الرافض الاعتراف بالهزيمة بالرغم من قسوتها، والذي أبدى دعماً قوياً لقياداته، ما مهد الطريق لانتصارات مستقبلية.

تحت ضغط الجماهير، تراجع عبد الناصر عن قراره بالاستقالة في 10 يونيو، وألقى خطاباً جديداً أكد فيه التزامه بمواصلة النضال من أجل تحرير الأراضي المحتلة، وأعلن إعادة تنظيم الجيش المصري وإصلاحه لمواجهة التحديات المستقبلية، وعبّر عن ثقته بقدرة الشعب المصري على تجاوز المحنة.

التحليل والتأثير

لقد كانت التظاهرات التي جرت في 9 و10 يونيو 1967 دليلاً على الوعي العميق للجماهير، فبالرغم من الهزيمة العسكرية، لم تفقد ثقتها بناصر كقائد ملهم يملك القدرة على قيادة البلاد نحو استعادة الكرامة الوطنية وتحرير الأراضي المحتلة، وأكدت أنها على استعداد لتحمل الصعاب من أجل تحقيق النصر.

وأظهرت هذه التظاهرات الطبيعة الديناميكية للعلاقة بين القيادة والجماهير في تلك الفترة. بالرغم من الصدمة، كانت هناك رغبة قوية في المقاومة واستعادة الحقوق المغتصبة، وهذا ما دفع ناصر إلى العودة واستمرار دوره القيادي.

إن تظاهرات 9 و10 يونيو لم تكن مجرد رد فعل على الهزيمة العسكرية، بل كانت تعبيراً عن الثقة العميقة بالقيادة واستعداد الشعب لتحمّل الأعباء من أجل استعادة الأراضي المحتلة. 

هذا الدعم الجماهيري أدى دوراً مهماً في تشكيل السياسات المستقبلية لمصر تحت قيادة ناصر، ما أكد أهمية الوحدة الوطنية والتضحية الجماعية في وجه التحديات الكبرى، وجسد الدعم الشعبي لعبد الناصر رغبة عارمة في مواجهة التحديات وتحقيق الانتصارات المستقبلية. تمثل هذا الدعم في التماسك الداخلي والاستعداد لمواجهة التحديات العسكرية والسياسية المقبلة.

حرب الاستنزاف.. البداية نحو التحرير

بعد استجابة عبد الناصر للجماهير وتراجعه عن الاستقالة، بدأ بإعادة بناء الجيش الجيش المصري وإعداد الخطط لتحرير الأراضي المحتلة من القوات الصهيونية. شملت هذه الخطط شن عمليات عسكرية متواصلة تهدف إلى إضعاف القوات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس في ما عُرف بحرب الاستنزاف (1967-1970).

استهدفت حرب الاستنزاف العمل على استنزاف قدرات العدو العسكرية والاقتصادية وإظهار قوة الجيش المصري وصلابته. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة والخسائر، نجحت الحرب في تحقيق أهدافها الأساسية، وأعادت الثقة إلى الجيش المصري والشعب العربي بقدرتهم على مواجهة التحديات.

نصر أكتوبر 1973.. تتويج للصمود والتنسيق العربي

جاءت حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 تتويجاً للجهود والتضحيات التي بدأت بعد هزيمة 1967. اعتمدت القيادة المصرية والسورية خطة محكمة لاستعادة الأراضي المحتلة، بمشاركة الدول العربية ودعمها، إذ شنت القوات المصرية هجوماً مفاجئاً عبر قناة السويس محطمة ومجتازة خط بارليف، فيما هاجمت القوات السورية مرتفعات الجولان، وحققت القوات المصرية والقوات السورية انتصاراً ملحوظاً في مواجهة القوات الإسرائيلية، وأظهرت قدرة الجيوش العربية على استعادة الأراضي وتحقيق النصر إذا ما تحلت بالإرادة الصلبة والتخطيط المسبق.

هذا النصر لم يكن مجرد إنجاز عسكري، بل كان تأكيداً على قدرة الأمة العربية على التغلب على التحديات وتحقيق أهدافها، مهما كانت الصعوبات.

 اتفاقية كامب ديفيد.. تحول جديد

بعد الانتصار في حرب أكتوبر، استُدرجت مصر إلى مصيدة "السلام الضائع"، كما وصفها وزير الخارجية المصري الأسبق، أحد شهود الطبخة المسمومة في أخطر مراحلها برعاية الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ومشاركة الداهية مناحم بيجين رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق، والتي تم توقيعها من قبل الرئيس المصري الأسبق عام 1978.

وبذلك، أهدر السادات تضحيات الجيش المصري في حرب أكتوبر، ما دفع وزير خارجيته إسماعيل فهمي إلى الاستقالة. بعدها أقدم على تعيين صديقه الدبلوماسي الوطني محمد إبراهيم كامل وزيراً للخارجية، وهو الذي يقول عن السادات في مذكراته "السلام الضائع": "عندما عبر بوابة كامب ديفيد.. كان عارياً مكبلاً، لا يملك حراكاً بسبب ما تفلّت به لسانه داخل الغرف المغلقة من تنازلات وتجاوزات وتعهدات الواحد بعد الآخر.. وفي لقاء وراء لقاء حتى كتف نفسه.. وبدَّد ما كان معه من أرصدة.. وكانت النتيجة أنه لم يجد أمامه مفراً من التوقيع على إشهار إفلاس مبادرته".

ربما هذا ما دفع الوزير محمد إبراهيم كامل إلى الإصرار على الاستقالة قبل أن يوقع السادات على معاهدة "كامب ديفيد".

لقد أثارت الاتفاقية ردود فعل متباينة في العالم العربي، إذ رآها البعض خطوة نحو السلام والاستقرار، فيما اعتبرها آخرون تنازلاً غير مقبول وتفريطاً في الحقوق الفلسطينية.

أدى توقيع الرئيس المصري للاتفاقية إلى عزل مصر سياسياً عن محيطها العربي، إذ قرر مجلس جامعة الدول العربية تجميد عضوية مصر، ما أثر في دورها الإقليمي وأدى إلى تراجع تأثيرها في القضايا العربية.

عدوان 1982.. الخلفية والتداعيات

في غياب الدور المصري الفاعل بعد تجميد عضويتها في الجامعة العربية، شهدت المنطقة تصعيداً في النزاعات. عام 1982، شنت "إسرائيل" عدواناً واسع النطاق على لبنان بهدف القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح هناك، ما أدى إلى احتلال بيروت وتفاقم الأزمة الإنسانية والسياسية في لبنان.

أدى العدوان إلى تعزيز التضامن العربي مجدداً، إذ أدركت الدول العربية ضرورة إعادة التكاتف لمواجهة التحديات المشتركة، لكن غياب مصر عن الساحة الإقليمية أثر بشكل ملحوظ في الجهود الجماعية للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

انطلاق المقاومة اللبنانية

مع خروج المقاومة الفلسطينية، ظهرت قوى جديدة على الساحة اللبنانية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. تأسست المقاومة اللبنانية، متمثلة في المقاومة الوطنية اللبنانية التي تضم القوى الوطنية والقومية واليسارية، فضلاً عن المقاومة الإسلامية المتمثلة في حزب الله وحركة أمل، وبدأت بتنظيم صفوفها وشن عمليات مقاومة ضد القوات الإسرائيلية.

شكّلت المقاومة اللبنانية بدايةً لمرحلة جديدة من الصراع العربي الصهيوني. استطاعت هذه المقاومة تنفيذ عمليات نوعية ألحقت خسائر بالقوات الإسرائيلية وأجبرتها على الانسحاب من مناطق واسعة من جنوب لبنان عام 2000، إلى أن سطرت المقاومة ملحمة بطولية في حرب يوليو/تموز 1986، فكانت بداية تشكّل محور المقاومة الذي وضع تحرير كامل التراب الفلسطيني في مقدمة أولوياته.

وفي هذا الإطار، تأتي الملحمة التي تصنعها المقاومة الفلسطينية بأحرف من نور وعزة وصمود على مدى الأشهر الثمانية في قطاع غزة، والمساندة المشهودة من قبل المقاومة اللبنانية عبر تكبيد قوات الاحتلال خسائر فادحة في شمال فلسطين المحتلة، فضلاً عن المواقف البطولية التي تسطرها القوات المسلحة اليمنية.

كل ذلك يؤكد أن روح التحدي والإرادة الصلبة منحت شعوبنا القدرة على تحويل اليأس إلى فرصة، والتعثر إلى حافز للانتصار.  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.