في ضوء استمرار حرب الإبادة.. مآلات عزلة "إسرائيل" الدولية

على الرغم من الدعم التقليدي الذي تحظى به "إسرائيل" من الدول الغربية الكبرى، بيد أنّ ممارساتها خلال الحرب على غزة، أضعفت من مكانتها الدولية، ووضعتها أمام تحدّيات جديدة.

0:00
  • "إسرائيل" أمام واقع جديد: عالم أقلّ استعداداً لمنحها الغطاء الذي اعتادت عليه لعقود طويلة.

تكشف المرافعات الدولية عبر منصة محكمة العدل الدولية في لاهاي خلاف الأسبوع الجاري والتي من المتوقّع أن تفضي لإصدار المحكمة قراراً استشارياً حول عدم التزام الحكومة الإسرائيلية بالقانون الدولي والتسبّب بتجوييع للفلسطينيين في قطاع غزة بسبب منعها إدخال المساعدات الإنسانية وإغلاق المعابر، الأمر الذي يعزّز مسار  ازدياد عزلة "إسرائيل" العالمية. 

فعلى الرغم من الدعم التقليدي الذي تحظى به "إسرائيل" من الدول الغربية الكبرى، بيد أن ممارساتها خلال الحرب على غزة، أضعفت من مكانتها الدولية، ووضعتها أمام تحدّيات جديدة تهدّد بتحويلها تدريجياً إلى "دولة" منبوذة، عكستها العديد من الشواهد والأحداث على المستويات الشعبية والقانونية والدبلوماسية. 

فعلى مستوى الحراك الشعبي العالمي المؤيّد للقضية الفلسطينية والمناهض لسياسات "إسرائيل" وجرائمها في قطاع غزة، شهدت غالبية دول العالم، ولا سيما الدول الغربية، حراكاً شعبياً واسعاً متضامناً مع الشعب الفلسطيني، وبرز الحراك الطالبيّ الواسع في الجامعات الأميركية والأوروبية، قبل عدة أشهر، حيث قاد الطلاب والأساتذة تحرّكات واسعة طالبت بوقف حرب الإبادة بحقّ المدنيين الفلسطينيين، وتميّز هذا الحراك الشعبي بزخمه الكبير واتساعه غير المسبوق، بيد أنه واجه قمعاً شديداً من أطراف مؤيّدة لـ"إسرائيل" وجرى استخدام وسائل متعدّدة لاحتوائه، وصلت ذروتها بعد تولّي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، بما في ذلك الشروع بقطع التمويل عن الجامعات ومراكز الأبحاث التي تدعم الحراك الطالبيّ، إضافة إلى حملات التشهير الإعلامية واستهداف النشطاء بشكل شخصي، مع اتهامهم بمعاداة السامية كوسيلة لتجريم نشاطهم، ما أدى لاتخاذ عدد من القرارات بإبعاد وترحيل طلاب إلى خارج الولايات المتحدة، وعلى الرغم من الأثر النسبي للضغوط والممارسات القمعية والإرهاب النفسي على فاعلية الحراك واستمراره وتصاعده، إلا أنّ الغضب الكامن تجاه "إسرائيل" بقي حياً، خاصة بين أوساط الشباب.

وعلى المستويين القانوني والسياسي، فقد أدّى الحدث القانوني الاستثنائي وغير المسبوق، المتمثّل  بإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه المقال يوآف غالانت، على خلفيّة اتهامهما بارتكاب جرائم حرب، لا تزال تلقي بظلالها السياسية والدبلوماسية على "إسرائيل"، وتمنع التحرّك المريح الذي كان يتمتّع به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في زياراته حول دول العالم الغربي، وباتت طائرته لا يسمح لها بالطيران في أجواء الدول الأعضاء في محكمة الجنايات الدولية، ولجأ مؤخراً لزيارة دولة هنغاريا التي تعتبر في ذيل الدول الأوروبية من حيث القوة والتأثير، والتي تتعرّض للمساءلة القانونية من المحكمة الجنائية الدولية بسبب كونها عضواً فيها وخالفت القوانين على الرغم من قرارها الانسحاب من المحكمة أثناء زيارة نتنياهو لها، الأمر الذي يعكس الحرج السياسي والدبلوماسي الكبيرين لـ "إسرائيل"، كما تعرّض عدد من جنود وضباط الاحتلال الإسرائيلي للملاحقة القانونية أثناء سفرهم لدول أوروبية، ما دفع "إسرائيل" إلى اتخاذ خطوات وقائية وتحذيرات بعدم السفر لجنودها لعدد من الدول الأوروبية، كما ألزم قادة "الجيش" الإسرائيلي الجنود بعدد من التقييدات العملياتية، كان آخرها حجب صور العشرات ممن تقرّر "تكريمهم" في ما يسمّى بـ"عيد الاستقلال".

بذلت الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية جهوداً هائلة في مواجهة التحدّيات القانونية من قبيل تبنّي استراتيجيات المناورة القانونية والدبلوماسية التي تهدف لتحويل قضية مذكّرات التوقيف والملاحقات القانونية إلى مسألة سياسية وقانونية معقّدة وطويلة الأمد، بهدف التخفيف من وطأة تأثيرها المباشر. ومع ذلك، فإنّ الرمزية التي حملتها المذكّرات القانونية ضربت في عمق صورة "إسرائيل" وشرعيّتها على الساحة الدولية، وأسهمت في تعزيز الرواية التي تصفها كدولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية وتستحقّ المحاسبة.

رغم نجاح "إسرائيل" في احتواء جزء من الضغوط القانونية والدبلوماسية، بيد أنّ الأثر التراكمي لهذا المسار بدأ يتجلّى بوضوح من خلال تصاعد الأصوات البرلمانية في أوروبا التي تطالب بإعادة النظر في الاتفاقيات التجارية والعسكرية مع "إسرائيل"، وتزايد المطالب بفرض عقوبات أو اتخاذ إجراءات دبلوماسية ضد مسؤولين إسرائيليين متورّطين في جرائم حرب، وتوسّع الحركات الشعبية الداعية لمقاطعة "إسرائيل" اقتصادياً وأكاديمياً وثقافياً (حركة BDS).

إن تغيّر المزاج العامّ، خاصة بين الأجيال الشابة في الغرب، يشير إلى أنّ الدعم التقليدي غير المشروط لـ"إسرائيل" بدأ يتأكّل، وأنّ النظرة لها كـ"دولة ديمقراطية صغيرة محاصرة" أصبحت أقلّ قبولاً مما كانت عليه في العقود الماضية. تحاول الحكومة الإسرائيلية مواجهة هذا الانزلاق نحو العزلة عبر مواصلة الترويج لسردية "مكافحة الإرهاب" لتبرير انتهاكاتها، خاصة في وسائل الإعلام الأميركية والغربية، وتعميق التحالف مع الولايات المتحدة، وضمان استمرار الدعم العسكري والمالي والسياسي في المحافل الدولية، وتوسيع دائرة علاقاتها مع قوى الجنوب العالمي مثل الهند وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في محاولة لكسر الهيمنة الغربية التقليدية على مشهد العلاقات الدولية.

بيد أنّ هذه السياسات لا تبدو كافية لإيقاف المسار التدريجي نحو العزلة، خاصة أنّ الأحداث الميدانية تثبت باستمرار الطابع العنصري والعنيف للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي، مما يفضحها أمام الرأي العامّ العالمي.

إن استمرار الحرب الإجرامية على غزة، والخطاب الاستئصالي والعنصري تجاه الشعب الفلسطيني في غزة و التصعيد الإسرائيلي المستمر في الضفة الغربية المحتلة عبر التوسّع الاستيطاني والتهجير القسري، ورفض الحكومة الإسرائيلية للمسارات السياسية والقانونية كافة التي تعالج جذور الصراع العربي الإسرائيلي، أدّت إلى تأكّل شرعيّة "إسرائيل" الأخلاقية أمام الرأي العامّ العالمي، كما أدّت إلى صعود قوى شبابية جديدة في الغرب تعتبر العدالة للفلسطينيين جزءاً لا يتجزّأ من نضالاتها الحقوقية.

إضافة إلى ذلك، فإنّ سياسة "إسرائيل" القائمة على تجاهل الضغوط الدولية، ورفض أيّ مساءلة حقيقية عن أفعالها، تجعلها عرضة لمزيد من الإجراءات العقابية مستقبلاً، خصوصاً مع احتمالية تغيّر مواقف بعض الحكومات الغربية إذا تغيّرت موازين القوى السياسية الداخلية فيها.

إنّ "إسرائيل" تجد نفسها شيئاً فشيئاً أمام واقع جديد: عالم أقلّ استعداداً لمنحها الغطاء الكامل الذي اعتادت عليه لعقود طويلة. وبينما قد تنجح على المدى القصير في المناورة وحشد بعض الدعم التقليدي، إلا أنّ الاتجاه العامّ يشير إلى مسار عزلة تدريجي سيحوّلها إلى "دولة مارقة"، وهو مصير ستكون له تداعيات بعيدة المدى على مستقبلها السياسي والاقتصادي والأمني.