في لحظة فراغ استراتيجي ورسم خرائط: قراءة في التقارب التركي الإماراتي

التقارب التركي الإماراتي ليس بالضرورة أن يعكس تطابقاً في الرؤى، بل لأنهما أدركتا بعد سنوات من التنافس الحاد والصدام الأيديولوجي، أن الكلفة الباهظة للمواجهة تفوق بكثير المكاسب التي حققتاها. 

0:00
  • لدى كل من تركيا والإمارات رغبة في تصدّر المشهد الإقليمي.
    لدى كل من تركيا والإمارات رغبة في تصدّر المشهد الإقليمي.

للمرة الثالثة منذ عام 2021، يقوم رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد بزيارة تركيا لتوقيع اتفاقيات تجارية واستثمارية، في وقت قام فيه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بخمس زيارات للإمارات خلال الفترة نفسها.

وفي مسيرة العلاقات بين الدولتين، محطتان أساسيتان: الربيع العربي الذي شكّل نقطة تحوّل جذرية وافتتح مساراً من التنافس الجيوسياسي والجيو اقتصادي بينهما، وعام 2021، الذي اعتبر نقطة بداية لإعادة ضبط العلاقة، والانتقال بها إلى مسار جديد.

1-  قبل الربيع العربي

 تميزت العلاقة بين الدولتين بشراكة اقتصادية، حيث استفاد المقاولون الأتراك من النهضة العمرانية الإماراتية، وأظهر المستثمرون الإماراتيون اهتمامًا بقطاعات مختلفة من الاقتصاد التركي. أما في السياسة، فكانت أهداف الدولتين وتطلعاتهما مختلفة، فلم تتباين ولم تتقاطع ايضاً.

اعتمدت الإمارات في فترة ما قبل الربيع العربي سياسة "هادئة" تركز على النهوض والتنمية الداخلية، وتفوض السعودية إلى حد كبير مسائل الأمن الإقليمي الأوسع. بينما اتبعت تركيا، في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، سياسة "صفر مشاكل"، مؤكدة المشاركة الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي لتعزيز مكانتها الإقليمية. وكانت أنظارها تتجه أكثر للدخول إلى الاتحاد الأوروبي وتعزيز نفوذها في جوارها المباشر، لذا لم تتقاطع طرق الإمارات وتركيا الاستراتيجية في تلك الفترة.

2-  الربيع العربي: مسار التصادم

مثل اندلاع الربيع العربي في عام 2011 نقطة تحول حاسمة في العلاقات الإماراتية التركية، حيث كشف تعامل كل من الدولتين مع الثورات، اختلافات أيديولوجية عميقة الجذور أدت الى تنافس وحروب بالوكالة بين الطرفين.

اتخذت الإمارات العربية المتحدة، مدفوعة بقلق عميق من عدم الاستقرار السياسي وخطر متصوّر من الحركات الإسلامية، موقفًا مضادًا للثورات بشدة. رأت القيادة الإماراتية في جماعة الإخوان المسلمين تهديدًا وجوديًا لنظامها الملكي ولاستقرار المنطقة، فعمدت إلى دعم الأنظمة القائمة وأسهمت مع السعودية في دعم الثورات المضادة. 

على العكس من ذلك، تبنت تركيا سياسة خارجية ذات توجه أيديولوجي إسلامي، ورأت في الربيع العربي فرصة غير مسبوقة لتوسيع نفوذها وتعزيز نموذجها الإسلامي، أو ما أطلق عليه اسم "العثمانية الجديدة".

وباستثناء سوريا، حيث دعم الطرفان مجموعات مناهضة للرئيس السوري السابق بشار الأسد، تباعدت رؤى الدولتين، واحتدم التنافس الاستراتيجي بينهما واتخذ طابعاً أيديولوجياً: نهج الإمارات المدني- الدولتي، المناهض للإسلام السياسي، مقابل موقف تركيا ذي التوجه الإسلاموي- العابر للدول القومية.

وهكذا، تخلت تركيا عن سياسة "صفر مشاكل" لمصلحة سياسة خارجية أكثر حزمًا ومواجهة في كثير من الأحيان، بينما تخلت الإمارات عن هدوئها التقليدي لمصلحة دور أكثر قوة وتدخلًا، فحصلت الحرب بالوكالة بين الطرفين في مسارح عدّة منها القرن الأفريقي، وشرق المتوسط ليبيا، والخليج نفسه (خلال فترة الأزمة مع قطر) وغيرها.

وخلال تلك المنافسة على النفوذ، استخدم كل طرف أدوات القوة التي يمتلكها، فبينما ركّزت الإمارات على الدبلوماسية الاقتصادية مستفيدة من صناديقها السيادية الضخمة، استخدمت تركيا – التي لا تمتلك القوة المالية نفسها – الدعم العسكري والدبلوماسية الثقافية التي تعتمد على الدين والقومية. وتنافست الدولتان أيضاً في مجال الحرب الإعلامية والمعلوماتية، وبينما ركزت الإمارات على المنتديات المتعددة الأطراف العربية، ركزت تركيا على المنتديات الإسلامية.

3-  عام 2021: عام التحول

شكّل عام 2021، عاماً مفصلياً، فقد تمت إعادة العلاقات بين الدولتين "تقريباً" إلى سابق عهدها، لأسباب عّدة أبرزها تدهور الاقتصاد التركي، وانهيار الليرة وحاجة تركيا إلى الاستثمارات الخليجية. أدرك الأتراك أن سياساتهم الإقليمية والمواجهات المستمرة كانت مكلفة اقتصاديًا ودبلوماسيًا، لذا، كان التقارب – خاصة مع دول الخليج العربي- وسيلة لخفض التكاليف وتخفيف العزلة الإقليمية والدولية.

في المقابل، وجد الخليجيون - بشكل عام- أن السياسات الهجومية التي اعتمدوها خاصة بعد عام 2015، باتت مكلفة، لذا انطلقوا إلى سياسة براغماتية تهدف إلى "تصفير المشاكل"، فتم رفع الحصار عن قطر، وتسوية المشاكل مع الدول الإقليمية كإيران وتركيا الخ.

وكان للأحداث التي حصلت قبل ذلك، وعدم رد فعل الأميركيين على قصف أرامكو واستهداف الداخل السعودي، والانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، بمنزلة جرس إنذار لدول الخليج لتعزيز استقلالها الاستراتيجي وتنويع شراكاتها الأمنية.

وعليه، إن التقارب التركي الإماراتي اليوم ليس بالضرورة أن يعكس تطابقاً في الرؤى أو الأهداف، بل لأنهما أدركتا بعد سنوات من التنافس الحاد والصدام الأيديولوجي، أن الكلفة الباهظة للمواجهة تفوق بكثير المكاسب التي حققتاها. 

وفي ظل تغيير هائل في الشرق الأوسط، وفي ظل محاولات رسم شرق أوسط جديد فيه من التهديدات والفرص على حد سواء، لدى كل من الدولتين رغبة في تصدّر المشهد الإقليمي من موقع الفاعل الذي يسهم في صناعته، ومن باب الاستفادة من التطورات التي حصلت بعد 7 أكتوبر 2023 خاصة ضعف "محور المقاومة" وما ترتب عليه من فراغ استراتيجي، إذ تسعى كل دولة منهما للاستفادة منه لتعزيز نفوذها الإقليمي.