كونفدرالية تحالف دول الصحراء... مغزى التأسيس وآثاره وتداعياته

قيام اتحاد كونفدرالي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، يعدّ استجابة ضرورية ومنطقية بالنظر إلى المخاطر والتحديات التي تواجه هذه الدول، كما تعدّ استجابة "متأخرة" لشعارات القادة الأفارقة الذين قادوا شعوبهم في معركة الاستقلال "الأولى".

  • تطورات مهمة في العلاقات التي تربط دول النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
    تطورات مهمة في العلاقات التي تربط دول النيجر ومالي وبوركينا فاسو.

شهد الأسبوع الماضي تطوّراً مهماً في العلاقات التي تربط دول النيجر ومالي وبوركينا فاسو، تمثّل في وضع وزراء الخارجية فيها، اللمسات النهائية للمشروع الأوّلي لمعاهدة إنشاء كونفدرالية تحالف دول الساحل، الذي يُعدّ تطوراً نوعياً في تاريخ المنطقة، وفي تاريخ العلاقات الجديدة بين هذه الدول التي اعتلى سنام السلطة فيها قادة جُدد رفعوا شعارات الاستقلال الوطني في مواجهة الاستغلال الفرنسي، الذي استمر لنحو نصف قرن بعد نيلها استقلالاً شكلياً، وتلى عقوداً من الاحتلال المباشر الذي حرم هذه الدول حريتها، وحقّها الطبيعي في التطوّر والنهوض، ونهب ثرواتها ووظّفها في نهضة فرنسا.

تعيش الدول الثلاث، صحوة استقلال وطني جديد، سعت إلى تحصينها بتوقيع قادتها في منتصف أيلول/سبتمبر من العام الماضي معاهدةً أطلقت عليها "معاهدة الدفاع المشترك للحماية من المهدّدات الخارجية والداخلية". 

ويجيء توقيع هذه الدول على هذه الاتفاقية لتحصين مشروعها الاستقلالي الجديد من المخاطر المحتملة والمتوقّعة، وبشكل خاص تلك المخاطر التي تقف خلفها دول الغرب التي ما فتئت تهدّد مشاريع الاستقلال والتحرّر الوطني في "مستعمراتها" السابقة.

إن التوافق على الدخول في اتحاد كونفدرالي يعبّر عن وعي بضرورة وحدة دول الساحل، التي تعدّ شرطاً لازماً من شروط قدرتها على مقابلة التحديات، وشرطاً ضرورياً لتقوية عزمها وجهودها من أجل تكريس حالة الاستقلال والتحرّر الوطني بشكل حقيقي، خاصة وأن الحرية والانعتاق من أسر "الاستعمار" المباشر وغير المباشر يعدّ مطلباً رئيساً للنهضة، ومن هنا يتضح المغزى الرئيس من توجّه الدول الثلاث لتأسيس اتحاد كونفدرالي يجمعها في مسارها نحو صناعة مستقبل جديد.

إن الاعلان عن معاهدة كونفدرالية تحالف دول الساحل يعني دخول مشروع الصحوة الاستقلالية للدول المكوّنة لهذه الكونفدرالية مرحلة عملية، بدأت بالإطار القانوني ذي الأبعاد الدستورية والقانونية، وتتهيّأ للدخول في مرحلة التكامل السياسي والاقتصادي والأمني، المرتكز على قاعدة فكرية قوامها الحرية والحقّ في المحافظة على الخصوصية الثقافية، والحقّ في تشكيل حاضر هذه الدول وصناعة مستقبلها بإرادة وطنية قادرة على تحرير القرار الوطني، وتجاوز مرحلة الاستلاب الحضاري، وتوظيف الثروات الوطنية المادية والبشرية في مشروع نهضوي يخاطب تطلّعات شعوب الدول الثلاث، ويطوي صفحة الفقر والفاقة والجهل والمرض والتراجع الحضاري المفروض عليها من الغرب.

أمام هذا المشروع الاتحادي الكونفدرالي الجديد فرصة تاريخية لاستكمال عملية الانقلاب على الحقبة "الاستعمارية" التي سيطرت خلالها فرنسا على مقاليد الأمور، واستولت لعقود طويلة عبرها على الثروات، وأمامها فرصة كذلك لتقديم نموذج استقلالي يلهم شعوب دول غرب ووسط وشرق أفريقيا، وهو نموذج تتوفّر مقوّمات نجاحه الداخلية التي لاحت بشرياتها من حالة الاحتضان الشعبي لأنظمة الحكم الجديدة التي رفعت شعارات الاستقلال والتحرّر.

وتساعد المتغيّرات الدولية الكبيرة التي انعكست بشكل مباشر على الفضاء الأفريقي من خلال دخول الصين وروسيا في هذا الفضاء كفاعلين رئيسيين فيه، تساعد في الدفع بجهود تأسيس وإطلاق هذا الاتحاد الجديد، وتوفّران فرص تعاون وشراكة خالية من الأجندة السياسية، التي تفرض على الدول الضعيفة رؤى حضارية ومواقف سياسية لا تراعي خصوصيات هذه الدول وخصائصها التاريخية والبنيوية.

ستكون لمشروع كونفدرالية دول الساحل آثار وتداعيات على صعيد مجتمعاتها المحلية، وسيُطلق المشروع قدرات هذه المجتمعات، وسيُجدّد أفق التعاون والتكامل بينها، خاصة وأن تاريخها قد تأسس على وحدة المشاعر والوجدان، وهو أمر يجب أن يحظى بانتباه قادة هذه الدول والبناء عليه من أجل توظيف القدرات المجتمعية في بناء مثال جديد للدولة الأفريقية القادرة والمتحررة والناهضة.

لمشروع كونفدرالية دول الساحل، قدرة على التأثير على المسرح الإقليمي، فمن ناحية يمتلك هذا المشروع قابلية إلهام الشعوب والمجتمعات الأفريقية، ولا سيما في الدول ذات الجوار المباشر وشبه المباشر، وسيسهم ذلك في دفع الطاقات الاستقلالية عند تلك المجتمعات. وسينعكس ذلك سلباً على مستقبل النفوذ الغربي الكولنيالي في أفريقيا، وستساعد في ذلك عوامل كثيرة، بينها الصورة الذهنية الكالحة التي رسمتها السياسات والممارسات الكولونيالية في العقل الأفريقي، وضمن تلك العوامل أيضاً أوضاع تلك الدول والمجتمعات، وتطلّعها إلى مستقبل جديد يجسّد أشواقها في الحرية والكرامة ومواكبة التقدّم والتطوّر الحضاري والاقتصادي.

بمقدور هذا المشروع أن يخاطب بشكل معتبر تحدّي الحماية الوطنية التي أُبرمت من أجلها "معاهدة الدفاع المشترك للحماية من المهدّدات الخارجية والداخلية"، والتي اعتبرت اللبنة الرئيسة في بناء مشروع الكونفدرالية، وسينعكس ذلك على الأوضاع الأمنية في منطقتي غرب ووسط أفريقيا، وسيمتد تأثير ذلك ليبلغ ليبيا والجزائر وموريتانيا في شمال أفريقيا والسودان في شرقها. وسيعزّز ذلك العلاقات الثنائية بين جميع هذه الدول.

سيعزّز هذا المشروع حالة الضعف التي أصابت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" بعد انسحاب النيجر ومالي وبوركينا فاسو منها، وهذا الذي ظهر جلياً في اللقاء يوم أمس الأول حين طلب الرئيس النيجيري أحمد بولا تينوبو من الرئيس السنغالي باسيرو فاي العمل على إعادة هذه الدول إلى التجمّع.

إن قيام اتحاد كونفدرالي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، يعدّ استجابة ضرورية ومنطقية بالنظر إلى المخاطر والتحديات التي تواجه هذه الدول، كما تعدّ استجابة "متأخرة" لشعارات القادة الأفارقة الذين قادوا شعوبهم في معركة الاستقلال "الأولى"، إذ ظلّوا ينادون بوحدة أفريقيا التي يصنع مشروع كونفدرالية دول الساحل نواة لها يلزم تعهّدها بوعي استثنائي، وإرادة صلبة لا تلين.