كيف نفهم موقفي ترامب ونتنياهو من الصراع في المنطقة؟
تخدم العودة إلى الحرب على غزة والمعركة ضد اليمن صورة ترامب على أنه الرجل القوي، وهذا ما يريد تثبيته، من خلال العدوان على المقاومة اليمنية المتمسكة بإسناد قطاع غزة.
-
ترامب مهووس بالإنجاز الشخصي، وإثبات أنه الرئيس الأكثر نجاحاً.
بعد انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق وتبادل الأسرى في غزة، ومع استئناف الحرب على غزة، بعد أن خرقت "إسرائيل" الاتفاق من جانب واحد، وبدعم أميركي واضح، يُطرح سؤال بشأن الهدف من استئناف الحرب، وإن كانت الدوافع الإسرائيلية مبنية على استراتيجية وخطة ثابتة تجاه الصراع في المنطقة؟ وهل هناك تطابق بين الرؤيتين الأميركية والإسرائيلية بشأن الحرب على غزة والصراع في المنطقة؟
إن توقيت استئناف الحرب، بعد ضم إيتمار بن غفير لحكومة نتنياهو قبيل تصويت الكنيست الإسرائيلي على الميزانية، أثار شكوكاً بشأن دوافع نتنياهو الشخصية، الأمر الذي يشير إلى أن استمرار الحرب حتى بعد نحو عام ونصف عام على اندلاعها لا يخلو من تبني استراتيجية تخدم نتنياهو أولاً وقبل أي شيء الذي يسعى للبقاء، ويعتمد بقاؤه على حلفائه في الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف، بيد أن دوافع نتنياهو الشخصية غير منفصلة عن رؤيته ورؤية اليمين الإسرائيلي وأغلبية الأحزاب الإسرائيلية داخل الحكومة وخارجها، التي تتفق على الانتقال من سياسة احتواء الصراع وإدارته، والتي سادت قبل السابع من أكتوبر 2023، إلى مرحلة الحسم، بيد أن الخلاف الجوهري في التكتيك والأولويات، وليس في الغاية النهائية، وهي حسم الصراع لمصلحة "إسرائيل" من دون منح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من تطلعاته. حتى إن أغلبية الأوساط الإسرائيلية لا تعارض خرق الحكومة الإسرائيلية اتفاق وقف إطلاق النار في غزة من ناحية مبدئية، بل ترى أن خرق الاتفاق مبرَّر بحجة أن الطرف المقابل هو عدو "إرهابي" لا ضير في عدم الالتزام معه بالاتفاقات، بيد أن المعارضين يحتجون فقط لأن خرق الاتفاق لا يصب في مصلحة إطلاق الأسرى الإسرائيليين، الأمر الذي يعكس طبيعة أغلبية المجتمع الإسرائيلي التي تدفع في اتجاه واحد، هو المعادلة الصفرية للصراع القائم والممتد منذ نحو 76 عاماً.
من جهة أخرى، فإن نتنياهو ما كان ليقدم على خطوة استئناف القتال، التي لا تحظى بإجماع إسرائيلي، من دون دعم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي هدد أكثر من مرة غزة بفتح أبواب الجحيم في حال لم تطلق المقاومة سراح الأسرى الإسرائيليين. وما لبث أن فتح باب التفاوض المباشر مع المقاومة، وكان دعا إلى تهجير أهل غزة قبل أن يتراجع. وأخيراً وليس آخرا ، دعم استئناف "إسرائيل" الحرب على غزة، الأمر الذي يعكس تناقضاً في المواقف، بيد أن التناقض الظاهر لا ينفي أن لدى إدارة ترامب خطة للمنطقة، تريد من خلالها تحقيق المصالح الأميركية، بيد أن ما يعوّق خططها تمسك المقاومة في المنطقة بمواقفها على الرغم من التكلفة العالية والثمن الباهظ الذي تتكبده، وهو ما أشارت إليه تقارير استخبارية أميركية، ذكرت أن منطقة الشرق الأوسط ستبقى بعيدة عن الاستقرار، وأن مكونات المقاومة في المنطقة لم تخضع وستبقى تهاجم "إسرائيل" والولايات المتحدة حتى بعد تكبدها خسائر فادحة.
التناقضات في المواقف الأميركية عكستها تصريحات المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، التي لم تنل إعجاب الإسرائيليين كونه تحدث عن المقاومة في غزة، ووصفها بأنها غير أيديولوجية، وأنه لا بد من معرفة ما تريد تحقيقه. ومن جهة، أخرى برر لـ"إسرائيل" العودة إلى الحرب، بيد أن تصريحه بأن مصير الحرب على غزة سيحدد مصير المنطقة وربطها بمصير مصر نفسها، الني قال إنها تعيش أزمة ومفلسة... كلها إشارات تبدو متناقضة، ولاسيما تجاه اليوم التالي للحرب على غزة والموقف الحقيقي لإدارة ترامب من التهجير لأهالي غزة، والموقف من الصراع في المنطقة عموماً، ولاسيما أن الخارجية الأميركية قالت إن الخطة العربية لإعمار غزة ما بعد الحرب لا تلبي تطلعات إدارة ترامب.
بعد نحو أسبوع على استئناف الحرب على قطاع غزة، ركّز الجيش الإسرائيلي حتى الآن على الهجمات الجوية، إلى جانب اقتحامات برية صغيرة في شمالي القطاع، ووسطه وجنوبيه. وفي الوقت نفسه، تشير المصادر الإعلامية الإسرائيلية إلى أن استعدادات تُجرى لبدء هجوم بري واسع في القطاع ، وقد يكون الأمر مجرد تهديد للضغط على المقاومة للتراجع عن موقفها بالتمسك بالاتفاق الأصلي ودخول مفاوضات المرحلة الثانية، وقد تتجه الأمور إلى تنفيذ عملية عسكرية واسعة تنتهي باحتلال قطاع غزة أو جزء كبير منه، بيد أن ما تؤكده الحكومة الإسرائيلية أن استئناف الحرب يهدف إلى فرض ضغط عسكري مكثف على المقاومة، وأنه تم بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وهو يستهدف أطرافاً أخرى أيضاً، بينها الحوثيون في اليمن، وإيران.
وينبع هذا التنسيق مع الولايات المتحدة كذلك من رغبة الإدارة الأميركية في توجيه رسالة واضحة إلى الجهات الإقليمية، وكذلك إلى القوى العالمية الأُخرى، مفادها أن تهديد دونالد ترامب بـ"فتح بوابات جهنم" لم يكن مجرد تصريح فارغ، بل يعكس خطوات عملية ستفرض ثمناً باهظاً على المقاومتين الفلسطينية واليمنية، وحتى على إيران نفسها، حتى لا يؤدي عدم العودة إلى الحرب على قطاع غزة إلى ظهور رئيس الولايات المتحدة في مظهر الضعيف، بحيث إنه وعد مرتين بـ"فتح أبواب جهنم".
وفي ضوء هذا، تخدم العودة إلى الحرب على غزة والمعركة ضد اليمن صورة ترامب على أنه الرجل القوي، وهذا ما يريد تثبيته، من خلال العدوان على المقاومة اليمنية المتمسكة بإسناد قطاع غزة عبر إطلاق الصواريخ مباشرةً في اتجاه السفن التابعة للأساطيل الغربية في البحر الأحمر.
كما تهدف إدارة ترامب إلى ممارسة ضغط غير مباشر على طهران بشأن برنامجها النووي، في ظل رفض إيران، حتى الآن، الدخول في مفاوضات مع ترامب تحت تهديداته وعقوباته. كما تهدف الضربات إلى دفع الإيرانيين إلى التوقف عن دعم المقاومة في المنطقة. كذلك، فإن المبادرة الأميركية لديها أيضاً دوافع اقتصادية، إذ تسعى واشنطن لضمان حرية الملاحة لناقلات النفط من الخليج العربي إلى أوروبا.
كل المواقف الأميركية والإسرائيلية، والتي تبدو غير متناسقة تارة، ومتناقضة تارة أخرى، ترجع إلى السمات والدوافع الشخصية لكل من ترامب ونتنياهو، فالأخير يهتم بدرجة كبيرة ببقائه السياسي، ويبدّل الأولويات، ويعيد ترتيبها بما يخدم مصالحه، ولا يتناقض مع المسار الاستراتيجي الإسرائيلي.
كما أن ترامب مهووس بالإنجاز الشخصي، وإثبات أنه الرئيس الأكثر نجاحاً، وأنه متباين في كل شيء عن سلفه جو بايدن "الفاشل". وفي الوقت نفسه، فإن سمات ترامب الشخصية ودوافعه الذاتية، يسعى لاستخدامها في تحقيق المصالح الأميركية في المنطقة، وعلى رأسها المصالح الاقتصادية، وجلب مليارات الاستثمارات للولايات المتحدة، الأمر الذي يسعى فريقه لرسم المسارات التي ستنجح، وتحقق الرؤية الترامبية، من دون تكبيل ومن دون كوابح، بدءاً بالتهديد والوعيد، مروراً بممارسة الضغوط القصوى واستخدام القوة العنيفة، وليس انتهاءً بالتفاوض المباشر وعرض الفرص والمزايا عبر إبرام الصفقات.