لا تعوّلوا على المجتمع الإسرائيلي لوقف الحرب على القطاع!

شرائح كبيرة من المجتمع الإسرائيلي تنازلت عن النضال ضد حكومة نتنياهو إلى حد كبير، بسبب الإحباط من إمكان حدوث تغيير قد ينهي الحرب أو يُسقط الحكومة بفعل عوامل داخلية في الوقت الحالي.

0:00
  •  الاحتجاج الذي يتكرر بالطريقة نفسها مرات عدة يُصبح جزءاً مُملاً من المشهد اليومي.
    الاحتجاج الذي يتكرر بالطريقة نفسها مرات عدة يُصبح جزءاً مُملاً من المشهد اليومي.

تشير استطلاعات الرأي التي تجريها معاهد الأبحاث والقنوات الإخبارية الإسرائيلية كل أسبوع أو اثنين، على الأقل، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع إلى مفارقة عجيبة. فمن جهة، يعارض الجمهور الإسرائيلي الحرب إلى حدّ كبير ويريد التغيير، وتتراجع ثقته برئيس الوزراء نتنياهو وبالحكومة الإسرائيلية برمّتها. ومن جهة أخرى، لا تتزايد الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي بما يتناسب مع هذه الرغبة، ولا يبدو أن هناك تغييراً سياسياً في الأفق القريب. فكيف يمكن تفسير ذلك، وهل الفجوة هي بين ما تُظهره استطلاعات الرأي والواقع على الأرض، أم هي بين تمنّيات الإسرائيليين ورغباتهم، وما هم على استعداد لفعله عملياً من أجل أنفسهم، ولماذا لا ينهضون للتغيير؟

على مدى أكثر من عقد من الزمن، نجح المجتمع المدني في "إسرائيل" في حشد عشرات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع، بل وصلوا أحياناً إلى مئات الآلاف. كانت مظاهرة ساحة "هابيما" وسط "تل أبيب" الخميس الماضي، والتي حشدت لها قوى مجتمعية مختلفة، الأكبر منذ بدء الحرب على القطاع في أكتوبر 2023، إذ ملأ عشرات الآلاف من الإسرائيليين الساحة والشوارع المحيطة بها. ومع ذلك، لم تصل المظاهرة في حجمها وزخمها إلى ما وصلت إليه المظاهرات الاحتجاجية الفارقة في تاريخ "إسرائيل"، مثل الاحتجاجات في عامي 1982 و2011، واحتجاج بتاح تكفا عام 2016 واحتجاج بلفور عام 2020 والاحتجاجات التي لم تنقطع على التعديلات القضائية بمشاركة مئات الآلاف الذين تظاهروا في شارع كابلان في "تل أبيب" وفي عشرات المدن الأخرى أسبوعياً، وأحياناً مرات عدّة في الأسبوع، من أجل تجميد التعديلات القضائية التي أرادت حكومة نتنياهو أن تفرضها قبل أحداث 7 أكتوبر 2023. وربما كان لمظاهرة بتاح تكفا، التي نُظمت قرب منزل أفيخاي ماندلبليت، المدّعي العام السابق، تأثيرٌ بالغ على قراره بتقديم لوائح اتهام ضد نتنياهو في العديد من القضايا.

ومع أن الاحتجاجات المرتبطة بحراك عوائل الأسرى لم تصل إلى تحقيق أهدافها بعد، حيث العشرات من الأسرى لا يزالون لدى المقاومة ولم تنتهِ الحرب حتى اللحظة؛ فالحكومة و"الجيش" لا يزالان يتحدثان عن استمرارها، مع ذلك لا يمكن إنكار العلاقة السببية بين هذه الاحتجاجات والتغيير في المواقف الشعبية، وفي تشكيل أغلبية واضحة في الرأي العام الإسرائيلي اليهودي تتراوح بين 60% و70%، وربما أكثر، مؤيدةً لصفقة شاملة لإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين وإنهاء الحرب.

على أي حال، رغم أن القاسم المشترك بين جميع من شارك في مظاهرة الخميس الماضي كان الحرب على غزة وعواقبها المباشرة على المجتمع الإسرائيلي، فإنه من غير المرجح أن مظاهرة محدودة كهذه، أمام المسرح ومكبرات الصوت، قادرة على وقف الحرب التدميرية على القطاع أو إنهاء الإيذاء المستمر الذي تسببه حكومة نتنياهو لـ "إسرائيل" وصورتها في العالم. يبدو للعيان أن هذه المظاهرات غالباً بلا تأثير قوي، وأن من يقودونها وينضمون إليها هم الأشخاص أنفسهم تقريباً وغالبيتهم من التركيبة الاجتماعية نفسها من الجمهور العلماني الليبرالي، أو "اليسار الأبيض"، كما يُطلق عليه في "إسرائيل".

على العموم، الواضح اليوم أن الخروج للاحتجاج على هذه الحرب ليس بالأمر الهيّن في "إسرائيل" لاعتبارات عدة، أهمها ذاك المرتبط بقناعة المجتمع الإسرائيلي بأن "هذا ليس هو الوقت المناسب للاحتجاج"، إذ تعتقد غالبية الإسرائيليين أن الاحتجاجات تُضعف "إسرائيل من الداخل". فقد أظهر استطلاع رأي أجراه معهد "أكورد" في فبراير/ شباط 2024، أن 72% من الإسرائيليين يعارضون المظاهرات لإنهاء الحرب، بينما أيّدها 18% فقط.

ناهيك بأن نتنياهو يستمر في إبقاء الإسرائيليين تحت سطوة التهديد بالخطر الوجودي إن قبلت "إسرائيل" الآن بوقف الحرب والتنازل عن القضاء على حماس. والنتيجة المتوقعة من هذه الفزاعة التي يستمر نتنياهو بالتلويح بها كلما تصاعدت الاحتجاجات والانتقادات، أن يبقى المجتمع الإسرائيلي في غالبيته أسير قبضته مسكوناً بعقدة الخوف فلا يُحرك ساكناً ولا يجرؤ على الاحتجاج، رغم الأضرار التي تُسببها الحرب له. والخلاصة هي أن "المأساة" لا تقود دائماً إلى الاحتجاج في ظل ضائقة "نفسية جنونية" بسبب الوضع الأمني، حيث الشعور الدائم الذي يزرعه نتنياهو في نفوس مواطنيه "أن الاثمان التي يدفعونها الآن مُستحقة وأن عليهم أن يتقبّلوها، وإلا فإنهم سيدفعونها أضعافاً مضاعفة مستقبلاً في حال توقفت الحرب وبقيت حماس على قوتها".

كما أنه لا يمكننا أن نغفل أثر التركيبة الاجتماعية النمطية للمتظاهرين التي لا تُحفز "الآخرين" للمشاركة، إذ لا يُرى عربٌ في المظاهرات، ولا يُرى يهود متدينون، ولا يرى مهاجرون من الاتحاد السوفياتي السابق..الخ. ومن الصعب، والحال هذه، أن يُراهن على تغيير قد تأتي به احتجاجات لا تتجاوز حدود "المجموعات الضيقة"، وهذه بالتأكيد ليست هي الطريقة التي يتم بها تغيير توجهات الحكومة بخصوص الحرب، أو تغيير الحكومة ذاتها في "الديمقراطيات". وحين يدرك نتنياهو أن حجم الاحتجاجات ضده ليس كبيراً جارفاً، وبأن الجمهور الإسرائيلي ليس موحداً في آرائه ومصالحه، حتى مع وجود نسبة عالية من عدم الرضا، فإنه سيمضي في حربه من دون كوابح. 

أما القضية الأخرى التي لا تقل أهمية في عدم توسع الاحتجاجات فهي طريقة إدارتها والتي تفتقر وفق بعض الإسرائيليين إلى الابتكار، إذ إن الاحتجاج الذي يتكرر بالطريقة نفسها مرات عدة يُصبح جزءاً مُملاً من المشهد اليومي. فخلال العام ونصف الماضيين، استنفد المتظاهرون كلَّ ما لديهم تقريباً من أدوات احتجاج؛ أيام اضطراب، ملصقات في الشوارع، إغلاق طرق...وغيرها. ومن المؤكد أن الجمهور الإسرائيلي فقد الشغف فبات لا يلتفت إلى هذه الفعاليات، وأصبح شديد التكيّف بما يُعيق إحداث التغيير المطلوب.

وأخيراً، فإن شيطنة حراك الاحتجاجات واتهامه بالأنانية وبمساندة "رواية الأرهاب" مُضافاً إليه عُنف عناصر اليمين المتطرف الشرطة تجاههم ساهم في إضعاف وتيرة الاحتجاجات، خاصة مع الإفراج عن عدد من الأسرى في الصفقات الجزئية ومقتل جزء آخر منهم في محاولات الإفراج عنهم بالقوة ما تسبب في انحسار المظاهرات واقتصارها على ما تبقى من عوائل الأسرى وبضعة الآف من المساندين لهم.

والخلاصة، أن شرائح كبيرة من المجتمع الإسرائيلي تنازلت عن النضال ضد حكومة نتنياهو إلى حد كبير، بسبب الإحباط من إمكان حدوث تغيير قد ينهي الحرب أو يُسقط الحكومة بفعل عوامل داخلية في الوقت الحالي.

ولذلك، فإن مطالبة أهالي الأسرى المتكررة مُضافاً إليها مطالبة مسؤولين سابقين في "الموساد" و"الشاباك" و"جيش" الاحتلال، في رسالة وُجهت إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالضغط على رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لإنهاء الحرب على غزة، وفق ما نقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، لا يُفهم في سياق الإحباط من إمكان حدوث التغيير من داخل المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل هو اعترافٌ ضمني "بالعجز الإرادي"، ثم هو إقرار بالخوف من التغريد خارج سرب الإجماع الصهيوني العنصري الإقصائي في ما يخص الشعب الفلسطيني وحياته، التي تتفق غالبية كاسحة في المجمتع الإسرائيلي أنها ليست ذا قيمة، وتؤمن أن حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" على القطاع مبررة وأخلاقية في مجتمع بات يُقدس الحرب والموت.