لماذا نتابع لقاءً مضى عليه نحو عشرين عاماً؟

بعد المسار الذي يتحدث عن النهج والهوية والعقيدة والفكر تجاه الاغتيالات مثلاً، كان هناك مسار موازٍ يكشف الحدث ومجراه، إذ يوضح السيد نصر الله كيف سار الحزب في حقل الألغام اللبنانية والإقليمية.

  • لماذا نتابع لقاءً مضى عليه نحو عشرين عاماً؟
    لا شكّ في أن تجربة حزب الله في حدّ ذاتها، تكاد تحقق فرادة تاريخية خاصة

على عكس أُولى بديهيات الصحافة، التي لا تقاوم الرغبة في الحصول على سَبق صحافي أو مقابلة من الدرجة الأولى، أو إحداث جدل جماهيري، جاء عرض اللقاء، الذي أجراه غسان بن جدو مع الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، متأخّراً عشرين عاماً، وفق الساعة الصحافية. فعلى أيّ توقيت اعتمد نشر اللقاء؟!

بحسب ما أوضح  غسان بن جدو، فإن "الميادين" اختارت توقيتها الخاص. فـ"الميادين"، في العشرية المقبلة، سترصد بأولوية مطلقة توثيق العشرية الماضية وما سبقها، مع ما يقتضيه ذلك من شهادات وحوارات مع شخصيات تؤدّي أمانتها التاريخية تجاه ما حدث بصورة كاملة.

التوضيح السابق يجيب عن السؤال: لماذا يُنشَر اللقاء حالياً؟ لكنه لم يكشف، على نحو حاسم، لماذا بقي اللقاء حبيس الأدراج أعواماً طويلة، بينما كانت تُشَنّ أبشع الاتهامات على حزب الله، ويتعرّض لحملة تشويه شرسة وقاسية من أجل تدمير صورته أمام الجماهير العربية، وتحميله وِزر أفعال اتُّهم بها زُوراً وظلماً خلال الأعوام الماضية؟

في كل الأحوال، لعلّ التوقيت الحالي أتاح، بعد أعوام من الجنون، متابعة هادئة ورصينة لما قيل قبل عقدين من الزمن، على نحو يسمح لنا بأن نفهم منهج حزب الله ضمن مراجعة موضوعية لمحطات الانتصارات والانتكاسات. فهذه الرحلة، عبر الزمن، تشكّل ضرورة موضوعية لمعرفة ظروف نشأة حزب الله، وعوامل التكوّن، ومراحل النموّ، وحتى شكل هياكله ومؤسساته الداخلية، وطبيعة علاقته بكل من إيران وسوريا والمقاومة الفلسطينية.

الحوار بين الرجلين أعاد شكلاً كاد يُنسى من متعة الاستماع إلى الضيف، فكان السيد نصر الله هادئ الملامح، واضح النبرة، مبتسم النظرات، لكنه صاخب الثورة، ولا مجال للتعاطي معه عبر فهم مسطّح للتاريخ. ولا مجال لحوار معه إذا حاولت حصره داخل حدث حقبة واحدة. ولا مجال لحوار سويّ معه إذا حصرته ضمن جغرافيا محدودة. فنحن أمام حزب فرض نفسه بقوة في الساحة السياسية اللبنانية، والساحة الإقليمية، ولا مبالغة في القول: في الساحة العالمية أيضاً؛ حزب رفض أسطورة قالت إن "قوة لبنان في ضعفه"، وفرض حقيقة تقول: مع كيان إسرائيلي معتدٍ ومجرم، وقوى إقليمية تستبيح "لبنان الضعيف" ما دام  "حيطه واطياً"، لا مكان للبنان إلّا في قوّته وبندقيته.

بوضوح، منذ البدء، كشف السيد نصر الله الدعم الذي يتلقّاه حزب الله من إيران، سياسياً ومالياً، لكنه يشير إلى أن ذلك لا يعني أن الحزب هو حزب إيراني في أرض لبنانية، فالأمين العام للحزب لبناني، وكل كوادر الحزب لبنانيون، ويمارس نشاطه في أرض لبنانية، ويدافع ويقدّم شهداء في سبيل تحرير الأرض اللبنانية. وكل هذا، كما يقول، معيارٌ كافٍ للتأكيد أن الحزب لبناني. لكنه، بشفافية أيضاً، يكشف المفاصلَ التي لجأ فيها الحزب إلى إيران، وكيف طابق الحزب بين منطلقاته السياسية والعقائدية التنظيرية والتطبيق العملي لها.

لا شكّ في أن تجربة حزب الله، في حدّ ذاتها، تكاد تحقق فرادة تاريخية خاصة، إلّا أن شكل التطور يستحقّ التوقف عنده والبحث في ثناياه. لقد أوضح غسان بن جدو أن الهدف الأساسي كان توثيق رحلة السيد نصر الله، لكن الأخير رفض أن يكون محورَ اللقاء، ووجّه الحديث كي يكون عن مسار حزب الله. ولعلّ في ذلك دلالة مضاعَفة على وحدة مسار الاسمين، وتفرد ذهنية السيد نصر الله وطريقة تفكيره.

لقد سبق الوجودَ التنظيمي لحزب الله في لبنان، والذي يؤرَّخ له بعام 1982، وجودٌ فكري وعقائدي يسبق هذا التاريخ. كان مهماً أن نعرف بشأن تلك الحقبة. وساهمت المداخلات، التي أوضحها بن جدو في الحلقة الأولى، في فهم السياق الذي كان سائداً، إقليمياً وعالمياً، في تشكيل فهم أوسع وبحث متعمّق في جذور الارتباط بإيران، أيديولوجياً وفقهياً، وكيف تُرجم عبر الدعم الإيراني للحزب الناشئ.

كما عرفنا أكثر بشأن الرجالات الأوائل وبعض الهياكل التنظيمية التي تنظّم عمل الحزب، من الشورى وإطارها السياسي، إلى الإطار الجهادي الذي يتراوح عدد أعضائه بين سبعة وتسعة أشخاص. كما كشف ظروف انتخاب الأمناء العامّين للحزب، من الشيخ صبحي الطفيلي، إلى الشهيد السيد عباس الموسوي خلَفاً، فالسيد حسن نصر الله.

وأوضح السيد نصر الله، في الحلقة الثانية، موضوع الرهائن وتفجير المارينز والجماعات الجهادية غير المرتبطة بحزب الله، والتي كانت مسؤولة عن هذه العمليات. 

  • لماذا نتابع لقاءً مضى عليه نحو عشرين عاماً؟

 

وبعد المسار الذي يتحدث عن النهج والهوية والعقيدة والفكر تجاه الاغتيالات مثلاً، كان هناك مسار موازٍ يكشف الحدث ومجراه، إذ أوضح السيد نصر الله كيف سار الحزب في حقل الألغام اللبنانية والإقليمية، أو في أرض يملأها البنزين، بحسب تعبيره، فكشف كيف عمل الحزب على فنّ ضبط النفس من أجل دفع الفتنة، وتجنُّب الانزلاق إليها، ليكشف خلفية بيئة المقاومة وجمهورها وانضباط مبادئها.

  •  نصر الله يوضح كيف سار الحزب في حقل الألغام اللبنانية والإقليمية

أجادت مداخلات بن جدو، من حيث الشكل، في ربط الأفكار، أو التعقيب عليها، من دون مواربة ممجوجة أو مماطلة، بل عبر ارتجال عفوي، ولا سيما في الحلقتين الأُوليَين، عن ظروف النشأة وسياقاتها الإقليمية. واعتمد بن جدو مبدأَي الفصل والوصل، فتنقّل قافزاً بين الأحداث والأعوام، متبحّراً في جوانب متعددة، ومثيراً فضولاً عمّا أُخْفِيَ في جوانب أخرى أَعْرَضَ عنها ، كانتهاء ولاية الشيخ صبحي الطفيلي وتفاصيلها ومفاصلها. لكنّ اللافت أن بن جدو تحلّى بوضوح موقف، وشجاعة إعلانه، وهذه نقطة تُحترم في الأوقات التي بات بعض المواقف محلّ شبهات في زمننا الحالي.

ما علاقة رفع صور السيد حسن نصر الله في العواصم العربية بانطلاق حملات التشويه المركَّزة عليه؟

يبقى أن تكثيف الحلقات على مدار أيام متتالية كان سيفاً ذا حدَّين، فهو ساعد على المحافظة على تسلسل السياق الزمني لتبقى الأفكار حاضرة في أذهان المتابعين، إلّا أنه، من جانب آخر، استعجل في هضم أحداث كانت تستحق مزيداً من الإيضاح. لكنّ هذه الحلقات ليست تلفزيونية، في المعنى التقليدي، بل إنها أشبه بالكتاب المَرجعي، والذي تعود إليه كلَّ حين لتقرأ منه المرحلة وتفهم ما حدث. إنه ليس لقاء المواقف، على الرغم من أهميتها. إنه لقاء الوقائع.

مع بداية تكوُّن الوعي السياسي لجيلَي الثمانينيات والتسعينيات، كانت نتائج مقاومة حزب الله تُترجَم واقعاً على الأرض. لم يكن أبناء هذين الجيلَين واعِيْنَ أحداثَ التكوّن الأولى، لذا من المفيد ترسيخها بالنسبة إليهم، لأن الجميع اليوم متروك أمام روايات تخترع وتختلق وترسم صورة مقلوبة ومشوّهة للحزب، الذي قاوم فأوجع، فانتصر بالإيمان والدماء. في ظروف سليمة المبادئ والرُّؤى، كانت المعادلة لتكون واضحة وضوح الشمس بين الحق والباطل، لكننا، للأسف، بتنا في زمن تَشَوَّهَ فيه كل شيء، حتى صورة الانتصار. لذا، كان ضرورياً تأكيد البديهي، وصارت الشفافية مهمة ومطلوبة، بل باتت واجباً أمام الجمهور، حتى لا يبقى فريسة خطاب آخر يقدّم، بدلاً من الرواية، عشراتها. تاريخنا في حاجة إلى رواية نرويها نحن. قد يكون للبعض رأي يقول: دَعوا الأفعال تتحدث. هذا صحيح ومحقّ، لكننا أيضاً أمام جيل جديد، لم يعايش فترة الانتصارات، ولم يعايش نير الاحتلال المباشِر حتى يميّز ما يجري، بينما يحتلّه إعلام يعمل، ليلاً نهاراً، على تشويه صورة الحق، ورَفْع شأن الباطل.

عندما أشاهد السيد حسن نصر الله كيف تحدث عن الجماعات الإرهابية المتطرفة، قبل عشرين عاماً، ونضوجه السياسي، وقراءته السليمة التي استشرفت ما سيحدث خلال عشرية النار العربية، فإنني أطمئنّ إلى ما يقوله حالياً، فالأيام والتجارب أثبتت صدق الوعد والعهد.