لماذا نجحت الرياض في سوريا... وفشلت في غزة؟

الفرق بين "نجاح" السعودية في الملف السوري، و"فشلها" في الملف الغزّي، لا يرتبط فقط بقدرات الرياض الدبلوماسية، بل بحدود ما يُسمح به من قبل الحلفاء الغربيين.

0:00
  • الغياب العربي... خيار لا اضطرار.
    الغياب العربي... خيار لا اضطرار.

من بين كثير من الأسئلة التي أثيرت في الأشهر الماضية على خلفية ما يتعرض له سكان قطاع غزة من عدوان عسكري واسع وسياسات تجويع ممنهجة، برز تساؤل يتعلق بالموقف العربي الرسمي، وتحديداً مواقف الدول التي تلعب أدواراً مركزية في المشهد السياسي الإقليمي، كالسعودية، الإمارات، قطر، ومصر.

إذ يتساءل بعض المراقبين: كيف نجحت الرياض في إقناع واشنطن برفع أو تعليق عقوبات عمرها نصف قرن عن سوريا، بينما تعجز عن إدخال شاحنة مساعدات إنسانية واحدة باسمها إلى قطاع غزة؟ وكيف مُنحت القاهرة والدوحة دوراً محورياً في جهود التهدئة ووقف إطلاق النار، في الوقت الذي تعجز فيه هاتان الدولتان عن إخراج طفل مريض أو إيصال مساعدات غذائية عاجلة؟

هذه الأسئلة ليست عابرة، بل تعبّر عن قلق متنام إزاء ما يبدو كعجز عربي مستمر أمام كارثة إنسانية غير مسبوقة، يتعرض لها أكثر من مليوني إنسان يعيشون تحت حصار ممتد منذ أكثر من 18 عاماً، وتحوّل منذ عامين إلى حصار خانق وسبب مباشر للمجاعة.

ما يخدم "إسرائيل" يمرّ... وما يهددها يُحاصر

ليس من الصعب فهم الفارق في الاستجابة الأميركية بين الملفين السوري والغزّي. فواشنطن، ومعها حلفاؤها الغربيون، تُبدي مرونة واضحة إزاء أي مبادرة تصبّ في مصلحة مشروع "السلام الإبراهيمي"، بما يشمله من جهود لتأهيل أنظمة سياسية كانت خارج المنظومة الإقليمية أو الدولية سابقاً. رفع أو تعليق العقوبات المفروضة على سوريا – وهو تحرك دُفعت به السعودية ضمن مسار سياسي متدرج – لا يُفهم فقط كخطوة إنسانية أو دبلوماسية، بل أيضاً كجزء من ترتيبات إقليمية أشمل تهدف إلى استيعاب دمشق ضمن محور "الاعتدال" في المنطقة، ومنع عودتها إلى "حضن" المحور المعادي لـ"إسرائيل".

بالمقابل، يُنظر إلى تخفيف الحصار عن غزة كتهديد مباشر لمصالح "تل أبيب"، سواء لناحية توازن القوى داخل القطاع، أو في ما يتعلق بالمفاوضات غير المباشرة مع حركة حماس. ولهذا السبب، فإن جميع النداءات والمبادرات العربية، مهما بلغت قوتها أو رمزيتها، تصطدم بجدار التجاهل وعدم المبالاة الأميركي والدعم الغربي غير المشروط لـ"إسرائيل".

فمثلاً الانخراط المصري والقطري في الوساطة السياسية يأتي في إطار حسابات تتعلق بعلاقات هاتين الدولتين مع فصائل المقاومة الفلسطينية، وليس تعبيراً عن حرية حركة مطلقة أو تفويض دولي مفتوح أو الاعتراف بثقل دور هاتين الدولتين. هذا الدور محكوم بسقف أميركي–إسرائيلي واضح، يمنع تحوّله إلى تدخل إنساني حقيقي أو مبادرة لإدانة السياسات العقابية الجماعية المتبعة في القطاع.

وحتى التصريحات الإعلامية الصادرة عن بعض القادة العرب لا تلامس جذور الأزمة، لا تحمل ملامح خريطة طريق لوقف العدوان الإسرائيلي، بل تكتفي بتعبيرات عامة عن "القلق" أو "الأسف" أو "الإدانة"، وهو ما يعكس حدود ما يُسمح به سياسياً.

الغياب العربي... خيار لا اضطرار

وما يفاقم من مأزق الموقف العربي أنه لم يتخذ حتى الحد الأدنى من الإجراءات الدبلوماسية الممكنة، كاستدعاء السفراء، أو تجميد العلاقات الاقتصادية، أو حتى تعليق الاتفاقيات السياسية والأمنية. غياب هذه الخطوات يوحي بأن الأمر لا يتعلق فقط بالعجز، بل أحياناً بغياب الإرادة السياسية، أو الخوف من تداعيات مواجهة محتملة مع واشنطن أو "تل أبيب".

في هذا السياق، يمكن التذكير بأن التاريخ لم يشهد حالة يُترك فيها شعبٌ يموت جوعاً وتُدمر بنيته التحتية بالكامل، فيما تواصل الدول "الشقيقة" له تعميق علاقاتها مع الجهة أو الكيان الذي تسبب بتلك الكارثة، سواء عبر صفقات تجارية، أو تطبيع سياسي، أو تحالفات أمنية.

كما أنه لا يمكن تجاهل أثر المتغيرات الإقليمية الكبرى التي حصلت مؤخراً – أو يُشاع حصولها – كالحرب على لبنان، وتصعيد التهديدات ضد إيران، وصولاً إلى ما يقال عن كيفية إسقاط النظام السوري. هذه التطورات، سواء كانت واقعية أو مضخمة إعلامياً، أسهمت في خلق مناخ من الخوف والحذر لدى كثير من الحكومات العربية، ما دفعها إلى تجنب اتخاذ مواقف قد تُفسر كتصعيد أو تمرد على الإرادة الأميركية.

الفضل للمقاومة... لا للأنظمة

في ظل هذه المعادلة، فإن ما تحقق – أو قد يتحقق – من تهدئة أو اتفاقات لوقف إطلاق النار، يعود بدرجة أولى إلى صمود فصائل المقاومة الفلسطينية، وإلى تضحيات السكان المدنيين في غزة، الذين أبدوا قدرة غير مسبوقة على التحمّل والثبات. لا يُمكن الادعاء بأن هناك "فضلاً" عربياً رسمياً في هذا الصمود، بل العكس هو الصحيح في كثير من الحالات، حيث يُطرح بجدية سؤال حول تواطؤ بعض الأنظمة في حصار غزة، إما بالصمت، أو بالتنسيق الأمني والسياسي.

إن الفرق بين "نجاح" السعودية في الملف السوري، و"فشلها" في الملف الغزّي، لا يرتبط فقط بقدرات الرياض الدبلوماسية، بل بحدود ما يُسمح به من قبل الحلفاء الغربيين، وبالاصطفاف الواضح في السياسات الدولية والإقليمية: كل ما يخدم مشروع الهيمنة الإسرائيلية يُفتح له الباب، وكل ما يهدد هذا المشروع – إنسانياً كان أم سياسياً – يُغلق عليه، ولو كان ذلك على حساب أرواح ملايين المحاصرين.