مجتمع الاستخبارات الأميركي وتقييم مخاطر دول "كرينك"

يذكر تقرير "تقييم المخاطر" الصين هذا العام، ويشير إلى عام 2049 بوصفه عام "التجديد العظيم للأمة الصينية". إنه الوقت وكيفية التعامل معه؛ أكثر ما يُشعر واشنطن بالخطر من الصين!

  • يضمّ مجتمع الاستخبارات الأميركي 18 وحدة متخصصة تشكّل الهيكل العامّ.
    يضمّ مجتمع الاستخبارات الأميركي 18 وحدة متخصصة تشكّل الهيكل العامّ.

مع نهاية الربع الأول من كلّ سنة، يصدر مجتمع الاستخبارات الأميركي (Intelligence Community) تقريراً خاصاً بعنوان "تقييم المخاطر" (Threat Assessment). ويضمّ مجتمع الاستخبارات الأميركي 18 وحدة متخصصة تشكّل الهيكل العامّ للاستخبارات الأميركية (الـ CIA هي واحدة منها فقط). 

أما التقرير فيعرض ما يسمّيه المخاطر التي يتعرّض لها "الأمن القومي الأميركي"، وعادة ما يصنّف المخاطر إلى مخاطر من غير الدول (تجارة المخدرات والمواد الخطرة، التنظيمات من غير الدول) ومخاطر دولية (الدول التي تشكّل حالة عدائية للولايات المتحدة وسياساتها).

ليس غريباً أن يختصر التقرير المخاطر الدولية في 4 دول، بات العديد من الكتّاب يفضّلون اختصارهم بـ "كرينك" CRINK (الصين، روسيا، إيران، وكوريا الشمالية).

الصين... الخطر الشامل الأكبر 

في التقييم الاستراتيجي، الذي يعرضه التقرير عن الصين، يأتي على ذكر عام 2049 باعتباره عام "التجديد العظيم للأمة الصينية". إنه الوقت وكيفية التعامل معه؛ أكثر ما يُشعر الولايات المتحدة بالخطر من الصين، فالتقرير يعتبر أنّ الصين تشتري الوقت لتحسين الوضعية التنافسية في لحظة الحسم، أو لحظة التحوّل من التنافس (competition) إلى التنازع (Dispute) إلى الصراع (Conflict). 

آلية التعامل الصيني مع الوقت، وتحديد لحظة الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني في المواجهة، تربك طريقة التعامل الأميركي، القائم على العمليات الجراحية السريعة، مع تحمّل أضرارها الجانبية كاملة، والبحث في علاجها لاحقاً، وما زالت الدبلوماسية الأميركية تتذكّر كلمات ماو تسي تونغ لهنري كسنجر "لا مشكلة لدينا في تايوان، يمكن أن نضع خطة من 100 سنة لاستعادتها".

لذلك علاقة بالموروث الثقافي الصيني الأوسع، وأدبيات صن تزو في "فنّ الحرب"، واعتماد قواعد حرب الاستنزاف البطيئة والمملّة إلى حين أن تتحوّل إلى قاتلة!

يختصر التقرير المخاطر الصينية بـ:

1. تعاظم الإمكانات العسكرية الصينية، بما يجعلها التهديد العسكري الأكبر بحسب التقييم الأميركي، وظهرت ملامح ذلك في عدة مناسبات؛ امتنعت فيها القوات الأميركية من المناورات التدريبية قرب المحيط الجغرافي الصيني. 

يرصد التقرير إمكانات الصين العسكرية، ومن ذلك حاملة الطائرات فوجيان، التي تدخل الخدمة بشكل رسمي في 2025، ومنظومة الصواريخ الباليستية والفرط صوتية (DF ـــــ27)، التي تستطيع استهداف الأراضي الأميركية بشكل مباشر، وجزيرة غوام في المحيط الهادئ التي تمثّل قاعدة عسكرية أميركية مهمة، ناهيك عن هاواي وألاسكا.

بحسب التقرير، تستطيع المعدّات العسكرية الصينية إصابة الهدف، إما عن بعد، أو باستخدام الغوّاصات النووية أو الطائرات الحربية.

2. تمثّل الصين بالنسبة للولايات المتحدة خطراً سايبرانياً عالياً، وتؤشّر في تقريرها على مجموعات عمل وأحداث مثل Volt Typhoon، وSalt Typhoon. وتعتبر أنّ الإمكانات السيبرانية الصينية قادرة على إثارة الهلع الاجتماعي أو تعطيل الحياة الاجتماعية وتعطيل في البنية التحتية العسكرية.

3. ليس جديداً الحديث عن القلق من الدور الاقتصادي في العالم، باعتباره عموداً أساسياً (Main Pillar) في سياق مواجهة الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي.

بل إنّ الصين قادرة على اتخاذ إجراءات عقابية اقتصادية، ولكن من دون أن تعلن ذلك، كما هو الحال في الولايات المتحدة، وقد عمدت أكثر من مرة إلى تعقيد الإجراءات البيروقراطية ضدّ كيانات معيّنة كنوع من العقاب الاقتصادي (تحدّثت عدد من التقارير سابقاً عن ممارسة ذلك مع "إسرائيل" خلال طوفان الأقصى، تحديداً فيما يتعلّق بالمنتجات ذات الاستخدامات المتعدّدة).

4. يفرد التقرير مساحة كافية للحديث عن أشباه الموصلات، وتتّضح الصورة أكثر من الرواية الحالية القائلة إنّ الولايات المتحدة تعاقب الصين بالشرائح (IC) والصين تعاقبها بالمنتج الأخير (الهاتف، السيارة الكهربائية، التلفاز، إلخ...)، ويورد التقرير ما مفاده:

· أنّ الصين تنتج شرائح الـ 7 نانوميتر ويعمل باحثوها على تسهيل إنتاج شرائح الـ 3 نانوميتر بكميات أكبر.

· إذا كانت الولايات المتحدة تحارب الصين بالشرائح كسلع رأسمالية (مدخلات إنتاجية)، فالصين لا تهدّدها بالمنتج الأخير فقط، وإنما بالعناصر التي تصنع منها الشرائح نفسها، والتي تسيطر الصين على تنقيبها (غاليوم، جرمانيوم، إلخ...).

5. تتحسّس الولايات المتحدة خطراً صينياً في الأركتيك (القطب الشمالي)، وتعتبر أنّ ذوبان القمم الجليدية هناك، سوف يمنح فرصة صينية للتجارة واستخراج المزيد من مصادر الطاقة، كي لا يتمّ الاكتفاء بمصادره من الشرق الأوسط. 

تأتي خطوة ترامب في غرينلاند مفهومة في إطار هذا الصراع، فالعلاقة بين غرينلاند والصين كانت تتسارع خلال السنوات الماضية، ووزيرة الخارجية في غرينلاند، فيفيان موتزفيلد، زارت الصين لمدّة أسبوع عام 2023 لتعزيز العلاقات الدبلوماسية والشراكات التجارية.

6. تشير التقديرات الأميركية إلى أنّ حصة التكنولوجيا من الاقتصاد الصيني سوف تكون 23% العام المقبل، ويمثّل ذلك زيادة بالضعف عن عام 2018. والقلق الأميركي الأساسي، هو العمل الصيني على إزاحة الولايات المتحدة عن المنافسة في الذكاء الاصطناعي عام 2030، ومجدّداً يشكّل التعامل الصيني مع الوقت هاجساً أميركياً. 

يكمن القلق الأميركي في أن تتوسّع حالة التفوّق الصيني في ميدان الذكاء الاصطناعي، فالصين متفوّقة في ميادين الذكاء الاصطناعي المتعلّقة بتحليل الفيديو وبصمات الصوت والوجوه، ويكمن القلق في أن يطال ذلك مختلف قطاعات الذكاء الاصطناعي التوليدي (generative AI). 

7. عندما أشعل ريغان "حرب النجوم" ضدّ الاتحاد السوفياتي، لم تكن الإمكانات الصينية في الفضاء تذكر، واليوم تعتبر الولايات المتحدة أنّ الصين هي المنافس الأساسي في الفضاء، ويعود ذلك للأسباب الآتية:

· القدرة التنموية في الفضاء لأقمار صناعية ومنها low earth orbit، وقاعدة على القمر.

· قدرة الاستغناء عن التكنولوجيا الغربية، "بيدو" بديلاً عن جي بي أس الأميركي أو غاليليو الأوروبي.

روسيا... الواقع الاستراتيجي للقوة العسكرية لم يتضرّر

ما زالت الولايات المتحدة تعتبر القدرة الروسية على منع توسّع الناتو شرقاً هي مصدر القلق الأساسي، وأنّ عزل روسيا عبر فائض العقوبات لم يعطِ النتائج المرجوّة، بعد تعزيز روسيا علاقاتها الدولية بعيداً عن الغرب، وتركيزها على الصين وإيران وكوريا الشمالية، واعتمادها منظّمات مثل البريكس. 

يسرد التقرير مجموعة من المخاطر، أهمها:

1. أنّ الضغوطات الاقتصادية على روسيا لم تعطِ النتائج المرجوّة، ولا سيما أنّ الاقتصاد الروسي ما زال يحتلّ المركز الرابع عالمياً بحسب مؤشّر الناتج المحلي الإجمالي بمعادل القوة الشرائية PPP. ويتطابق ذلك مع تقارير أخرى صادرة عن الـ CIA بشكل منفصل. 

2. الخسائر البشرية الروسية في الحرب في أوكرانيا، والتي يقدّرها التقرير بـ 750 ألفاً بين قتيل وجريح، لم تؤثّر على الواقع الاستراتيجي للقوة العسكرية الروسية، ومن ذلك أنّ مؤشرات القوة البحرية والجوية مثلاً تعاظمت ولم تتراجع. 

3. ما زالت دبلوماسية العداء للولايات المتحدة تجد أصداء واسعة (Anti-US Diplomacy).

4. أعطت الحرب في أوكرانيا بنكاً غزيراً لروسيا من الدروس المستفادة والتجربة في مواجهة الأسلحة الغربية، الأمر الذي يعطيها أفضلية في مواجهات مباشرة مستقبلية إن حدثت، وهذا يشكّل تحدّياً كبيراً للسياسة الدفاعية الأميركية.

5. ما زالت القوة السيبرانية وإمكانات التأثير في نتائج الانتخابات الأميركية حاضرة.

6. لم تكتفِ روسيا بتركة الاتحاد السوفياتي من الترسانة النووية، وإنما قامت بتحديثها بشكل ملحوظ على مستوى الأسلحة الاستراتيجية والتكتيكية.

7. إذا كانت روسيا لا تشكّل تهديداً مماثلاً للصين في الفضاء لجهة المشاريع التطويرية والتقنية الحديثة، إلا أنها تمتلك أسلحة الفضاء التدميرية (Anti Satellite Weapons – Jamming systems)، التي ستجعل الصين في وضعيّة تنافسية أعلى، بحكم أنها غير معرّضة لها، بل الغرب قد يكون عرضة لاستهدافها.

8. في ميدان الذكاء الاصطناعي، لا تشكّل روسيا الخطر الأكبر (إنما الصين)، ولكن مجدّداً، فإنّ الحرب في أوكرانيا طوّرت أنظمة معزّزة بالذكاء الاصطناعي في روسيا، ومن ذلك مضادات المسيّرات AI-Enabled Anti Drone Systems. 

9. في ميدان صناعة أشباه الموصلات، أيضاً لا يماثل القلق من روسيا الحالة في الصين، حيث إنّ معظم الإنتاج الروسي في هذا الميدان، ما زال في حدود شرائح 65 نانوميتر، وهو نموذج قديم نسبياً.

إيران... القدرة على إلحاق أضرار جسيمة بالمهاجم

يقول التقرير إن إيران سوف تستمر في جهودها لمواجهة "إسرائيل" والضغط على الولايات المتحدة لمغادرة المنطقة، ويقول إنه على الرغم من التحوّلات في المنطقة مؤخّراً إلّا أنّ ثمّة تهديدات من محور المقاومة ما زالت حاضرة:

· إمكانية تهديد القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا.

· ثغرات إسرائيلية عرضة للخطر من حماس وحزب الله.

· تهديد اليمن عبر المسيّرات والصواريخ في فلسطين المحتلة أو في البحر.

فيما يتعلّق بإيران بالتحديد، يعتبر التقرير أنّ إيران قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالمهاجم، بسبب امتلاكها للمخزون الأكبر في المنطقة من الصواريخ والمسيّرات، وإمكانات الهجوم على أهداف في المنطقة، والتأثير على اقتصادات الطاقة وسلاسل التوريد عبر مضيق هرمز، وامتلاكها عمقاً استراتيجياً عبر دائرة الحلفاء. تشكّل الدبلوماسية الإيرانية عنصراً من عناصر القلق الأميركي، ويعتبر أنها حقّقت نجاحات متباينة من وقت إلى آخر.

يوحي التقرير أنّ الرهان الأميركي الأكبر في إيران على الاضطرابات في الداخل، كالأحداث في نهاية عام 2022 وبداية 2023، ويعتبر أنه على الرغم من الإمكانات الإيرانية، إلا أنّ التركيز الإيراني خلال المرحلة المقبلة هو ترميم الإمكانات في محور المقاومة.

كوريا الشمالية... هامش التفاوض المعدوم

ينظر التقرير إلى كوريا الشمالية باعتبارها قوة عسكرية قادرة على استهداف أراضي الولايات المتحدة، وأنّ الاتفاقيات الاستراتيجية مع روسيا عزّزت من إمكاناتها، وجعلتها تخرج من الارتهان لعلاقة واحدة (الصين).

في تقييم المخاطر المقبلة من كوريا الشمالية، يعتبر مجتمع الاستخبارات أنّ الهامش التفاوضي الضيّق لكيم جونغ أون أساسيّ، ولا سيما عند الحديث عن برنامج التسليح العسكري، كما يعتبر دخول كوريا الشمالية عالم العملات المشفّرة خطراً إضافياً.

تقييم مخاطر التعاون في كرينك

يعتبر التقرير أنّ الروابط التي جمعت بين هذه الدول تمثّل خطراً حقيقياً، وأنّ التعاون عزّز إمكانات المواجهة لديها، سواء بشكل فردي أو جماعي، وأنّ الحرب في أوكرانيا سرّعت في وتيرة هذا التعاون (تعاون عسكري روسي مع إيران وكوريا الشمالية، اعتماد روسيا على واردات متعددة الاستخدامات من الصين، تحويل صادرات روسيا باتجاه الصين، اتفاقيات استراتيجية بين روسيا وإيران، وبين روسيا وكوريا الشمالية، فتح روسيا الطريق أمام الصين باتجاه الأركتيك، إلخ...)، وسوف يستمر بصرف النظر عن نتائج هذه الحرب. 

الصين في نظر التقرير هي اللاعب الأكبر، وروسيا هي عنصر التحفيز للتعاون، والتعاون الصيني الروسي هو الأكثر خطورة؛ ولكن تبدو السمة العامّة في التقرير أنّ واشنطن تفضّل المواجهات المنفردة مع خصومها، وأنّ المواجهة الجماعية في ظلّ تعزيز روابط التعاون، لن تكون إلا انتحاراً أميركياً!