مستقبل الصراع على المعادن النادرة بين الصين والولايات المتحدة
على الرغم من أن الاقتصاد الصيني يعاني تباطؤاً، فإن بكين تدرك حجم اعتماد واشنطن الصناعي عليها. ومن خلال ضوابط التصدير، يمكنها توجيه ضربة غير مباشرة للشركات الأميركية الحساسة.
-
ما أثر الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟
لم تعد الصين مجرد "منافس" للولايات المتحدة الأميركية، بل أصبحت "تهديداً" يجب التعاطي معه، (الآن، وإلا فات الأوان)، وفقاً للعديد من الاستراتيجيين الأميركيين.
تصنّف الولايات المتحدة أعداءها الكبار في ثلاث مراتب (منافس-تحدٍ-تهديد)، وهو ما يعني أن بكين باتت اليوم التحدي الأكبر للولايات المتحدة بعد أن أصبحت تهديداً لها.
الصراع بين الصين والولايات المتحدة يأخذ أبعاداً عدة، سياسية واقتصادية وعسكرية وجيوسياسية، لدرجة أن "احتواء الصين" بات المحدد الأول للاستراتيجية الأميركية في العقدين الأخيرين على الأقل.
تقدم الصين خطاباً سياسياً هادئاً، فيه الكثير من الأفكار الطوباوية، تسعى من خلاله لطمأنة العالم والابتعاد عن استفزاز أميركا، لكن ذلك لا يمنع مساعي بكين المستمرة لتطوير نفسها، وبالتالي الوصول إلى قمة الهرم الدولي.
الولايات المتحدة تجد نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها والحفاظ على مكانتها، وبالتالي تبرر الوسائل كافة التي تستخدمها لمنع الصين من التفوّق عليها أو حتى منافستها.
الصين، من جهتها، تراهن على الوقت باعتباره "مكسباً صلباً" بالنسبة لها، وبالتالي فإن تأجيل المواجهة بينها وبين الولايات المتحدة (فيما لو كانت هذه المواجهة حتمية)، يصب في مصلحتها وسيقلص من خسائرها.
الرئيس ترامب ومن خلال تبنّيه شعار "أميركا أولاً"، تبنّى سياسات تعبّر عن عدم ثقته بمستقبل الولايات المتحدة، وبالتالي فإن جميع الوسائل مباحة، بغض النظر عن تأثير استخدامها على سمعة الولايات المتحدة الأميركية.
تعكس اتفاقيات التعدين استعداد الولايات المتحدة للتنازل عن مبادئ السوق الحرة، والتصدي للصين عبر تبنّي نموذجها الرأسمالي الاستراتيجي عند الضرورة، ما يشير إلى مرونة في سياسات الاقتصاد الأميركي لمواجهة التحديات العالمية.
الحرب التجارية بين البلدين وأثرها على الاقتصاد العالمي...
مثّل إعلان الرئيس ترامب حربه التجارية على الصين وباقي دول العالم انقلاباً على المفاهيم التي سعت الولايات المتحدة الأميركية لتكريسها، وخاصة ما يتعلق منها بحرية التجارة وتكريس القيم والمفاهيم الليبرالية.
كان ذلك عندما كان لأميركا فائض قوة بحيث لا يستطيع أحد منافستها، أما اليوم وبعد اكتساح الصين الأسواق العالمية عادت الولايات المتحدة إلى مفاهيم الحمائية ودعم منتجها الوطني، وتقييد انتقال السلع والبضائع بين الدول.
الغريب أن ترامب استهدف الجميع في حربه التجارية، فلم يسلم منه صديق ولا عدو، وهو ما جعل العديد من الدول تعيد تقييم علاقاتها مع الولايات المتحدة، والانتقال لتطوير علاقاتها مع الصين، وخير دليل على ذلك التقارب الهندي-الصيني بعد أن فشلت أميركا في جعل الهند في المحور المعادي للصين.
الصين باتت اليوم مصنع العالم، وكل هزة تتعرض لها الصين تؤثر على سلاسل التوريد الدولية، وبالتالي مزيداً من المشكلات للاقتصاد العالمي الذي يعاني أصلاً تبعات كوفيد 19 والحرب الأوكرانية وسوى ذلك من أزمات.
الاستمرار في الحروب التجارية هو نوع من "سياسة عضّ الأصابع" التي ستكون نتيجتها حتماً خسارة الجميع، ولكن بنسب متفاوتة، ومن يمتلك مقومات القوة هو من سيصمد أكثر.
على الرغم من أن الاقتصاد الصيني يعاني تباطؤاً، فإن بكين تدرك حجم اعتماد واشنطن الصناعي عليها. ومن خلال ضوابط التصدير، يمكنها توجيه ضربة غير مباشرة للشركات الأميركية الحساسة، من دون مواجهة عسكرية أو اقتصادية مباشرة.
تصعيد جديد من الولايات المتحدة:
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عزمه فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على جميع الواردات الصينية، وذلك في أعقاب تعثّر جولة المفاوضات الأخيرة بين واشنطن وبكين. تأتي هذه الخطوة كرد فعل مباشر على إعلان الصين فرض قيود صارمة على تصدير العناصر الأرضية النادرة، التي تُعدّ مواد أساسية في تصنيع الرقائق الإلكترونية، والأسلحة الذكية، والسيارات الكهربائية.
وفي تعليق له على منصة "إكس"، عبّر ترامب عن موقفه بالقول إن تصرف الصين يمثل خطوة عدائية من خلال تشديد قبضتها على سوق المعادن النادرة، مؤكداً عزمه الرد من خلال إجراءات اقتصادية صارمة.
على خلفية ذلك، شهدت الأسواق الأميركية والعالمية تراجعاً سريعاً نتيجة هذا التصعيد، فمؤشر داو جونز انخفض بنسبة 1.9% ، كما تراجع مؤشر S&P 500 بنسبة 2.71% . أما مؤشر ناسداك فقد سجل انخفاضاً بنسبة 3.56%، ليصبح أسوأ أداء له منذ شهر نيسان/أبريل الماضي.
وخلال الساعات الأخيرة، شهدت العملة الرقمية بتكوين انخفاضاً حاداً، وذلك عقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن فرض مجموعة جديدة من الرسوم الجمركية على الصين بنسبة 100%. ووصف ترامب الصين بأنها تتبع سياسات عدائية للغاية، مدّعياً أنها تمارس سيطرة احتكارية على العالم.
أما قطاع التكنولوجيا فقد كان الأكثر تأثراً، نظراً لاعتماده الكبير على المواد المستوردة من الصين. وفي الوقت ذاته، شهدت أسعار الذهب والدولار تقلبات حادة مع تصاعد المخاوف من احتمالية عودة الحرب التجارية إلى ذروتها.
بكين، من جهتها، فرضت قيوداً شاملة على تصدير العناصر النادرة، شملت ضرورة الحصول على إذن رسمي صيني لأي تصدير يتضمن نسبة تفوق 0.1% من المعادن النادرة. وحظر استخدام هذه المواد في الصناعات العسكرية الأجنبية. وفرض رسوم موانئ إضافية على السفن الأميركية. وفتح تحقيقات في قضايا احتكار ضد شركات أميركية كبرى مثل كوالكوم. كما ألغت بكين عملياً اللقاء المقرر بين شي جين بينغ وترامب في قمة APEC، بعد تصريحات ترامب العدائية الأخيرة.
خطوة ترامب تعكس إرادة سياسية جلية تهدف إلى تقليل الاعتماد على الصين، إلا أنها تواجه عقبات تقنية واقتصادية جوهرية ومعقدة، تجعل الوصول إلى استقلال أميركي كامل في مجال المعادن النادرة أمراً غير واقعي في المستقبل القريب.
الصراع بين البلدين على امتلاك المعادن النفيسة...
لم تعد المعادن النفيسة تقتصر على الذهب والفضة والنحاس...إلخ. بل ظهرت معادن جديدة تدخل في تصنيع الرقائق الإلكترونية وتقنيات الطاقة النظيفة وغيرها. كما أن الحديث عن المعادن النادرة والعملات الرقمية والذكاء الاصطناعي لم يعد حديثاً علمياً وتقنياً فقط، بل بات ساحة للحوارات السياسية بالدرجة الأولى، نظراً لأن من يتحكم بتلك المعادن هو من سيحدد مستقبل النظام الدولي.
تمثل المعادن النادرة عنصراً جوهرياً في تطور التكنولوجيا الحديثة، إذ تدخل في العديد من الاستخدامات التي تتراوح بين الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية وصولاً إلى المعدات المستخدمة في الصناعات الدفاعية.
ومع تصاعد الاعتماد العالمي عليها، باتت المنافسة الدولية للسيطرة على إنتاجها وسلاسل توريدها محل تركيز كبير، ولا سيما في ظل التوتر المتزايد بين الصين والولايات المتحدة.
بحسب تحليل أجرته صحيفة "فايننشال تايمز"، تتمتع الصين بسيطرة تقارب 70% على أنشطة تعدين المعادن الأرضية النادرة، إلى جانب هيمنتها على نحو 90% من عمليات الفصل والمعالجة، و93% من إنتاج المغناطيس المستخدم في مختلف الصناعات.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليل اعتمادها على الواردات القادمة من الصين، بهدف تعزيز أمنها القومي وضمان تحقيق استقلالها في المجال التكنولوجي.
ومن أشهر هذه المعادن: النيوديميوم، الديسبروسيوم، واللانتانوم، والتي تُستخدم في تصنيع العديد من المنتجات الإلكترونية مثل: الهواتف الذكية، السيارات الكهربائية، والتوربينات الهوائية. كما تعدّ هذه المعادن أساسية في صناعة الأنظمة الدفاعية مثل أجهزة الاستشعار والرادارات.
استراتيجية بكين في مجال السيطرة على المعادن النادرة تقوم على ركيزتين أساسيتين، هما:
- العمل على استخراج هذه المعادن بكفاءة عالية، وتطوير الأدوات اللازمة لذلك.
- السعي للوصول إلى تلك المعادن خارج حدودها عبر توسيع شراكاتها مع الدول التي تحتوي على هذه المعادن وخاصة في أفريقيا وآسيا، لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي.
أما الولايات المتحدة، فإن استراتيجيتها ترتكز على ثلاث نقاط رئيسة، وهي:
- تنويع المصادر: عبر السعي لتأمين مصادر بديلة عن الصين، والسعي للبحث عن تلك المعادن داخل الولايات المتحدة وخارجها.
- السعي لبناء تحالفات جديدة مع دول أخرى مثل أستراليا وكندا لتعزيز أمن سلاسل التوريد العالمية.
- المزيد من الإنفاق على البحث العلمي سعياً إلى تقليل الحاجة إلى تلك المعادن النادرة، والعمل على تأمين بدائل عنها.
مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تواجه نقصاً ملموساً في الخبرات التقنية والبنية التحتية اللازمة لمنافسة الصين، حيث شهدت تراجعاً ملحوظاً في صناعاتها المرتبطة بهذا المجال على مدى عقود مضت.
إضافة إلى ذلك، تستلزم عمليات الفصل والتكرير، إلى جانب تصنيع المغناطيسات ذات الجودة العالية، استثمارات مالية كبيرة ومدة زمنية طويلة لإعادة تأسيس هذه القدرات من جديد.
ما يحدث اليوم ليس مجرد مرحلة عابرة في حرب الرسوم الجمركية، بل يمثل انطلاقة لحقبة جديدة من الانفصال الاقتصادي التكنولوجي بين واشنطن وبكين. ففي حين تعتمد الصين على قوتها في مجال الموارد والإنتاج الصناعي، تركز الولايات المتحدة الأميركية على تفوّقها التكنولوجي وعلاقاتها مع التحالفات الغربية.