مصر بين الجغرافيا والإرادة: معركة الدور والمصير
هل يمكن فعلياً عزل مصر؟ وهل يُعقل تحييد دورها في لحظة يُعاد فيها ترتيب الشرق الأوسط على أنقاض الثوابت؟
-
هل تعود مصر إلى دورها المركزي؟
في زمن تبدو فيه الخرائط مرنة كالرمال المتحركة، يُعاد رسم الشرق الأوسط لا بالجغرافيا فقط، بل بالإرادات المتصارعة والمصالح المتبدّلة. وفي خضمّ هذا الإعصار، تبدو مصر ـــــ قلب الأمة العربية وروحها.
وكأنها تُدفع قسراً إلى حافة مسرح الأحداث، في مشهد لا يشبهها ولا يشبه تاريخها الذي كُتب دوماً في صلب المراحل المفصلية.
ما جرى ـــــ أو لم يجرِ ـــــ في قمة بغداد الأخيرة لا يمكن قراءته إلا كتجسيد صارخ لمحاولة فرض عزلة سياسية ناعمة على القاهرة. عزلة لا تعكس ضعفاً ذاتياً فقط، بل تستثمر بذكاء في لحظة التراجع المصري، وتسعى لفصل مصر عن مركزيّتها في القضية الفلسطينية، وزجّها في إقليم يُعاد تشكيله برعاية صهيونية وخليجية، وسط تغييب متعمّد لثوابت الصراع العربي ـــــ الصهيوني.
لكن، هل يمكن فعليّاً عزل مصر؟ وهل يُعقل تحييد دورها في لحظة يُعاد فيها ترتيب الشرق الأوسط على أنقاض الثوابت؟
يقول المفكّر العبقري د. جمال حمدان في كتابه المرجعي "شخصية مصر":
"مصر ليست دولة، بل شبه قارة، أو قلب أمة... هي عمود الخيمة العربية".
فهل يمكن لعمود الخيمة أن يُطوى من دون أن تنهار الخيمة بأكملها؟ ما يحدث اليوم ليس إلّا محاولة لاختبار تلك الفرضيّة.
كامب ديفيد والعزلة مدفوعة الأجر
في عام 1978، حين وقّعت مصر اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، لم تكن الصفقة سياسية فحسب، بل كانت اقتصادية بالدرجة الأولى. مقابل "السلام"، حصلت مصر على معونة أميركية سنوية قاربت 2 مليار دولار، منها أكثر من 80% مخصص للمجال العسكري، والباقي مشروط باستخدامه وفق الرؤية الأميركية.
ترافق ذلك مع عزلة عربية خانقة، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس، وتجميد التعاون الاقتصادي العربي، ما أسفر عن تدهور القاعدة الإنتاجية المصرية، وتحوّل المعونة إلى أداة ربط وتوجيه، لا إلى وسيلة دعم حقيقي.
قال جمال حمدان يومها:
"الخطر الأكبر ليس في الهزيمة، بل في السلام المزيّف... إنه سلام يفرض علينا التبعيّة باسم الدعم، ويعيد استعمارنا باسم التنمية".
لكنها لم تكن النهاية. مصر، رغم العزلة، استعادت بعضاً من دورها لاحقاً، ولكن بثمن باهظ: لم يعد القرار الوطني مستقلاً كما كان، ولا الاقتصاد منتجاً كما ينبغي.
الاقتصاد كأداة تحجيم لا تمكين
لقد تحوّل الاقتصاد من أداة تمكين إلى أداة تحجيم، بفعل سياسات الخصخصة الجائرة والرهان على الريع لا الإنتاج.
منذ الثمانينيات وحتى اليوم، لم تنجح مصر في بناء قاعدة إنتاج مستقلة أو تنويع شراكاتها الاقتصادية، بل أصبحت رهينة:
- قروض دولية تتجاوز اليوم 165 مليار دولار (بحسب بيانات البنك المركزي ـــــ نهاية 2024)،
- اعتماد مفرط على تحويلات العاملين بالخارج والسياحة كمصادر هشّة،
- استثمارات خدمية وعقارية خليجية لا تصنع قاعدة صناعية حقيقية.
ولا يكتمل المشهد من دون الإشارة إلى التراجع الثقافي والإعلامي، حيث أُضعفت أدوات مصر الناعمة، وغابت عنها مشاريع التنوير، في الوقت الذي تصعد فيه قنوات الإقليم لتشكّل الوعي وتوجّه المزاج العامّ.
إنّ استعادة الدور الإقليمي لا يمكن أن تتمّ بالحراك الدبلوماسي فقط، بل بمشروع تحرّر اقتصادي يشمل:
- تقليل الاعتماد على التمويل المشروط من الخارج،
- تنويع الشركاء (الصين ـــــ روسيا ـــــ البرازيل ـــــ الهند)،
- إحياء الصناعة الوطنية، خصوصاً في مجالي الزراعة والتصنيع العسكري،
- دعم الشركات المحلية، وتقليل امتيازات الشركات الأجنبية،
- إصلاح منظومة الدعم لتتحوّل من دعم استهلاك إلى دعم إنتاج.
قال جمال حمدان:
"من لا يملك غذاءه وسلاحه، لا يملك قراره، ولا مكان له تحت شمس التاريخ".
رؤية عملية لاستعادة المكانة
1- في السياسة الخارجية
- كسر العزلة بتقارب استراتيجي مع دول الممانعة أو التي تُعيد تعريف دورها كـالجزائر، العراق، وإيران (وفق حسابات دقيقة).
- استعادة زمام المبادرة في القضية الفلسطينية بالانحياز العملي للمقاومة ورفض صفقات التصفية.
- توسيع التفاعل مع أفريقيا، واستعادة الدور الغائب في الثقافة والمياه والاقتصاد.
2- في الدفاع والسيادة الاستراتيجية:
- تنويع مصادر السلاح، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
- تطوير الصناعات العسكرية الوطنية (كما في الهيئة العربية للتصنيع).
- إعادة بناء العقيدة القتالية حول الدفاع عن الأمن القومي لا حماية الوضع القائم.
3- في الجبهة الداخلية:
- فتح المجال العامّ، وخلق مناخ وطني جامع عبر مصالحة شاملة.
- الإفراج عن سجناء الرأي، وعودة النقابات والجامعات لأدوارها.
- إشراك الشباب والنخب في بناء المشروع الوطني.
مصر وفلسطين: رابطة التاريخ والمصير
محاولة فصل مصر عن فلسطين ليست جديدة، لكنّ خطورتها الآن أنها تُطرح ضمن مشروع لإعادة هيكلة الإقليم ليكون بلا قلب، وبلا مركز.
لكن مصر كانت دوماً "الضلع الحاسم" في كلّ حرب، وكلّ تسوية، وكلّ نكسة أو انتصار.
قال جمال حمدان:
"فلسطين ليست مجرّد قضية، بل هي مفتاح مصر في الشرق، وسدّها الاستراتيجي أمام الغزو القادم من آسيا".
لا أمن قومياً لمصر من دون فلسطين. ولا دور إقليمياً يُكتب إذا لم يبدأ من غزة والقدس.
لحظة الحقيقة... لا تحتمل الحياد
نحن أمام مفترق طرق لا يحتمل أنصاف المواقف.
إما أن تعود مصر إلى دورها المركزي، أو تُترك الساحة لقوى ما دون الإقليم، ترسم خرائط جديدة على حساب الجميع.
لقد تعرّضت مصر عبر تاريخها لضغوط وحصار ومحاولات إخراج ـــــ من العدوان الثلاثي، إلى كامب ديفيد، إلى ما بعد 2011 ـــــ لكنها دائماً كانت تغيّر اتجاه الريح بدلاً من أن تنكسر.
واليوم، الخيار واضح:
إما أن تختار مصر طريق الإرادة والاستقلال، أو تُدار كدولة حدود.
"إما أن نُعاد إلى التاريخ، أو نكتبه من جديد".
(ولا يُكتب التاريخ الحقيقي إلا بأيدٍ حرّة، وإرادة صلبة).