عندما يصبح أسير الحرب صحافياً وطبيباً
يأتي اعتقال الطبيب حسام أبو صفية والإعلامي ناصر اللحام في خضم الحرب الإسرائيلية المتصاعدة، ليكشف عن جملة من الحقائق المغيبة عن الفضاء الإعلامي العالمي.
-
ما الحقائق المغيبة عن الفضاء الإعلامي العالمي؟
وقعت الجرائم في كل الحروب حيث انتُهكت القوانين والأعراف وارتُكبت الفظائع، ولكن ظل مصطلح أسرى الحرب مرتبطاً بالجيوش والجنود حصراً، حصل هذا في كل حروب التاريخ بما فيها الحرب العالمية، حتى جاءت حرب الإبادة في غزة، ورغم أن حروب إبادة وقعت في العديد من دول العالم، إلا أن الزج بالصحافي والطبيب والتعامل معهم كأسرى حرب لم يحدث إلا في هذه الحرب التي يندى لها جبين القانون الدولي والعرف الإنساني.
اعتقال الإعلامي القدير ناصر اللحام وقبله الطبيب حسام أبو صفية، ومثلهما المئات من أبناء الشعب الفلسطيني، لم يكن ليحصل لو كان أيّ منهم يعمل في مجال آخر، والاعتقال هنا مرتبط بحالة الحرب، فهم أسرى حرب يبرر الاحتلال اعتقالهم وفق قوانين حالة الطوارئ الراهنة المتصلة بالحرب التي تغرق الكيان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر، والمصيبة أن هؤلاء بالفعل أسرى حالة الحرب، ولكنهم لا يحظون بحقوق أسير الحرب، فهم يدفعون ضريبة عملهم بسبب الحرب، ثم لا يحظون بقوانين أسير الحرب، ولا يحدث ذلك إلا في عرف القوانين الإسرائيلية الوحشية.
صنفوه كنازي ابتداء بأمر الاعتقال، ثم قدموه للمحاكمة بتهمة التحريض، صار نازياً يحرّض ضد أمنهم لمجرد أنه يعمل صحافياً وإعلامياً متخصصاً في الشأن الإسرائيلي، يعني متابعاً لشأنهم الداخلي وفق ما يقولونه هم أنفسهم في وسائل إعلامهم ومنابر صحافتهم، وتصريحات زعمائهم السابقين والحاليين، كيف أمكن أن يصبح ناصر اللحام نازيّاً لمجرد عمله الإعلامي كناقل ومحلل، فيقومون ببث صورة مهينة له عبر إعلامهم وهو بلباس السجن بقصد إهانته ومن خلفه العلم الإسرائيلي، وكأنهم يسجلون نصرهم المطلق عليه لمجرد صورة كهذه؟
وكيف أمكن أن يُختطف حسام أبو صفية من مشفاه، لينكّل به صبح مساء، ويظل معزولاً عن البشر حتى تحوّل إلى هيكل عظمي يحتاج إلى من يعالجه وقد نقص من وزنه 40 كلغ؟ وهو الذي لطالما قدّم العلاج لمرضاه، جعلوه أسير حرب غير قانوني في تصنيفاتهم العجيبة لمجرد أنه يعمل كطبيب، وقد حوّلوه إلى مريض في زنزانته لا يجد طبيباً يعالجه.
ليس ثمة تفسير لهذا التخبط الإسرائيلي بأسر الصحافي والطبيب، إلا عقدة النقص التي انفجرت في عمق التكوين النفسي لهذا الكيان، فهو يبحث عن نصر يجسر فجوة السابع من أكتوبر، نصر نتنياهو المطلق العاجز عن تحقيقه في ميدان السابع من أكتوبر، إذاً ليدفع الطبيب والصحافي الثمن؛ ألم يعالج حسام أبو صفية أهل غزة؟ إذاً يستحق الأسر ودفع الثمن، لأن غزة بناسها ورملها وهوائها عدو مطلق استباح هيبة الجيش الذي لا يُقهر، في صباح تشريني ما زالت شمس شروقه تسطع ناراً في أعماق جنرالات هذا الجيش الغارقين في مستنقع غزة الرملي.
ألم يفضحهم ناصر اللحام ويكشف شروخهم ومدى انهيارهم في ذلك الصباح التشريني؟ ألم ينغّص عيشهم مع كل صاروخ إيراني دمّر منشأة استراتيجية في فضاء أسرارهم؟ واستخرج من بين سطور صحافتهم كما فلتات ألسنتهم، مدى الوجع الاستراتيجي الذي أحدثه الصمود الإيراني في مرابض مؤسساتهم الأمنية والعسكرية، كما مراكز أبحاثهم وجامعاتهم التي لطالما افتخرت بتخريج مهندسي تقنيات التصنيع الحربي وعلماء الترسانة النووية، وحتى الطيارين الذين يقصفون غزة ويدمرون البيوت فوق رؤوس أطفالها.
فعل ذلك حسام أبو صفية ومثله ناصر اللحام، وهما مثال صارخ للعدو المباشر في العقل الإسرائيلي، إذاً، يجب إضافتهم إلى قائمة سلخ اللحم عن الجسم في سدي تيمان وريمون وجلبوع، هناك حيث أكثر من أحد عشر ألف أسير فلسطيني، بعضهم أسير منذ أربعين عاماً والعشرات منهم قضوا شهداء تحت التعذيب، حتى من كان منهم معتقلاً إدارياً، والاعتقال الإداريّ صرعة إسرائيلية يخضع لها الآن حوالى أربعة آلاف أسير فلسطيني، موقوفين بلا لائحة اتهام، فلا يعرفون لماذا هم معتقلون، وعليه لا يستطيع محاموهم الدفاع عنهم أمام المحكمة، والأنكى أن هذا الاعتقال يمدَّد سنة وسنتين صعوداً حتى خمس سنوات، بلا تهمة سوى الزعم بوجود ملف سريّ أمني لدى الاستخبارات.
يأتي اعتقال الطبيب حسام أبو صفية والإعلامي ناصر اللحام في خضم الحرب الإسرائيلية المتصاعدة، ليكشف عن جملة من الحقائق المغيّبة عن الفضاء الإعلامي العالمي، وأهمها:
أولاً: لم يحرّض ناصر اللحام على القتل أو العنف أو الإرهاب حتى وفق القوانين الإسرائيلية الظالمة، ولن يجد المحققون ورجال الأمن جملة واحدة تدينه بهذا الخصوص، ولكنها مجرد تعميمات خرقاء لا ترقى إلى أدنى عمل مهني أمني، في مواجهة مهنية ناصر الإعلامية عندما نجح في تشخيص الوضع الإسرائيلي الداخلي خاصة خلال العدوان الإسرائيلي على إيران، واستطاع ببراعة خطابه الذكيّ أن ينقل هذا التشخيص عبر منبر الميادين الحرّ ليصل إلى كل مراكز الأبحاث العالمية.
ثانياً: لم يعمل الطبيب أبو صفية لدى المقاومة في غزة في إيذاء الأسرى الإسرائيليين، مثلما يفعل أطباء مصلحة السجون الإسرائيلية، ولم يخصص غرف مستشفى كمال عدوان لزنازين أسر، كما فعلوا في مستشفى سوروكا في بئر السبع، وقد حولوا طابقه الأرضي للجنود القادمين من حرب الإبادة في غزة، وأخفوا بجواره مركز قيادة للاستخبارات العسكرية، كما لم يثبت وجود أيّ بنية تحتية للمقاومة في هذا المستشفى الذي يترأسه أبو صفية، ربما فقط عالج بعض الأسرى الإسرائيليين بعد أن قصفتهم طائرات إسرائيلية، وهي أخطر تهمة في قاموس الأسر الإسرائيلية، لذا يجب اعتقاله ومعاقبته لأنه الطبيب الذي ربما يعالج الأسرى.
ثالثاً: جاء اعتقال ناصر الصحافي وأبو صفية الطبيب لرمزيتهما المهنية، حيث مثّل ناصر إعلام المقاومة عبر الميادين، وقدمه بمهنية عالية تجاوزت هرطقات الإعلاميين الإسرائيليين، كما أزعج إخلاص الطبيب أبو صفية لمهنته الطبية في بعدها الإنساني، في وقت جعل الجيش الإسرائيلي من مشافي غزة عدوه الدائم، ولكن هذا الطبيب مثّل توهجاً لافتاً في عمق إخلاصه والتفاف الأطباء والممرضين حوله، على الرغم من القصف والتعذيب والتنكيل، وما يلاقيه أطباء غزة من صعوبات هائلة في عملهم، ولكنهم عبر رمزية هذا الطبيب الإنسان وغيره من الأطباء الذين استشهدوا أو أُسروا وعُذبوا ونُِِكّل بهم، شكلّوا نماذج مهنية عظيمة انتصرت على أنانية الطبيب الإسرائيلي حتى وهو يعمل وسط ظروف مهنية مريحة، ولكنه كان يشكو وما زال من ساعات العمل الطويلة وسط ظروف الحرب.
كان يمكن لناصر اللحام أن يكون مجرد صحافي تقليدي يبحث عن الشهرة وسط حطام الأخبار الإسرائيلية، وكان يمكن لحسام أبو صفية أن يرحل عن غزة ليعمل في أرقى المشافي الأوروبية، ولكنهما انتصرا للصحافة والطب في أصل الرسالة المهنية الإنسانية في حقل القضية المركزية وعلى أطلال التغريبة الفلسطينية، في عالم ينحاز للتوحش الرأسمالي الغربي، الذي يقتات على دماء المستضعفين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية من دون همسة من قسَم "أبو قراط" ولا وقع صدى لصرخات أبي ذر.