من الحرب الكبرى إلى الصراع الصامت: غزة في مرحلة ما بعد "قمة شرم الشيخ"

تبدو احتمالات تجدّد القتال خلال الشهرين المقبلين محدودة نسبياً، غير أنّها مرشّحة للارتفاع تدريجياً مع مرور الوقت، لتصبح ممكنة خلال الأشهر الأربعة إلى الستة المقبلة.

  • اتفاق هشّ فوق ركام الحرب.
    اتفاق هشّ فوق ركام الحرب.

لم يكن تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشبكة "سي أن أن" بأنّ "نتنياهو قد يضطرّ لاستئناف القتال في غزة، وأنّ القوات الإسرائيلية قد تعود إلى الشوارع بمجرّد سماع كلمة الإدارة الأميركية" مجرّد انفعال إعلامي، بل جاء كإشارة سياسية تعبّر عن واقع هشّ يتربّص بأيّ إخلال يتعلّق بتطبيق بنود اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الذي تمّ توقيعه في مدينة شرم الشيخ المصرية، بناءً على خطة ترامب التي تمّ الإعلان عنها في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي.

فرغم قمة السلام التي حظيت باهتمام إعلامي واسع ومشاركة إقليمية ودولية متعدّدة، ووفّرت لها القاهرة كلّ عوامل النجاح الممكنة، تبقى الأنظار معلّقة بحذر على الخطوات اللاحقة من الخطة الأميركية، وسط تساؤلات مشروعة حول قدرة الهدنة العسكرية على الصمود. إذ لا يبدو، في الواقع، أنّ الحرب على قطاع غزة قد انتهت فعلياً، بل إنّها ربما اتخذت شكلاً جديداً مغايراً، من دون أن تتوقّف فعلياً.

اتفاق هشّ فوق ركام الحرب

انتهى مؤتمر شرم الشيخ، الذي عُقد في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025، إلى تفاهمات مبدئية تهدف إلى وقف القتال وإطلاق سراح الأسرى، وبدء مرحلة "إعادة الإعمار" تحت إشراف دولي. غير أنّ القراءة المتأنّية لمضمون الاتفاق تكشف أنّه أقرب إلى هدنة تقنية منه إلى تسوية سياسية شاملة.

فالبند المتعلّق بـتبادل الأسرى يبدو الشقّ الوحيد الواضح والقابل للتنفيذ فعلاً، فيما تبقى البنود الأخرى (مثل نزع سلاح المقاومة، وإنهاء وجود حركة حماس والفصائل الأخرى، وإدارة القطاع عبر لجنة دولية وتكنوقراط محلّيين) بنوداً إشكالية يصعب تطبيقها عملياً، كما أنها مرفوضة فلسطينياً، على الأقل بصيغتها الحالية كما وردت في خطة ترامب.

كذلك، التصريحات كافة التي يُدلي بها السياسيون والعسكريون الإسرائيليون، بما يشمل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، تتحدّث صراحةً عن البقاء في قطاع غزة، وعدم الاستجابة لأيّ ضغوطات تتعلّق بـ "الانسحاب الشامل"، و"إعداد الخطط اللازمة لهزيمة حماس في حال تجدّد الحرب"، وسيكون من اليسير على "إسرائيل" تقديم "المبررات" لمثل هذا السلوك.

لذا، يمكن القول بأنّ "تل أبيب" تنظر إلى الهدنة باعتبارها فرصة لإعادة التموضع لا لإنهاء الحرب، ووزراء أقصى اليمين يقفون بالمرصاد، لرفض أيّ ترتيبات تُبقي حماس أو جناحها العسكري في غزة. كما أنّ القوات الإسرائيلية ما زالت متمركزة في محيط مناطق عديدة داخل القطاع، خصوصاً الشمال والحدود الشرقية، وهذا يعني أنّ أيّ احتكاك بسيط أو "حادث إطلاق نار" يمكن أن يتحوّل إلى ذريعة لتجدّد الحرب.

من جهة أخرى فإنّ "الاتفاق الأخير" لم يتضمّن، في مراحله الأولى، لجنة مراقبة أو قوات فصل دولية، وهذا يعني أنّ أيّ طرف يمكنه اتهام الآخر بالخرق من دون مرجعيّة تُحاسِب. والتجارب التاريخية تؤكّد أنّ مثل هذه الاتفاقات تنهار سريعاً إذا لم يكن هناك رادع ميداني أو ضمان خارجي واضح.

ومع ذلك، تُوجد جملة من العوامل التي تُقلّل من احتمالات العودة إلى الحرب بالشكل الواسع الذي شهدته العامين الماضيين:

أولاً: حالة الإنهاك العسكري لدى الطرفين. فقد خرج "الجيش" الإسرائيلي من الحرب مثقلاً بالخسائر البشرية والمعنوية، وسط تراجع واضح في التأييد الشعبي لأيّ عملية برّية طويلة أو مفتوحة. وفي المقابل، تكبّدت فصائل المقاومة خسائر جسيمة في بنيتها التنظيمية والعسكرية، ما يجعلها أكثر حذراً وتريّثاً إزاء خوض مواجهة جديدة. كما أنّ الرأي العام داخل قطاع غزة بات أكثر رفضاً لأيّ تصعيد عسكري بعد سقوط هذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى، ووقوع دمار شبه شامل طال المباني السكنية والمدارس والمستشفيات، بحيث لم يعد المجتمع الغزّي يحتمل دورة عنف جديدة بالوتيرة نفسها.

ثانياً: الضغوط الدولية والإقليمية، وعلى رأسها الموقف الأميركي، فواشنطن تدرك أنّ استئناف الحرب الآن سيقوّض "مشروع ترامب" المتمثّل في السيطرة الاقتصادية على قطاع غزة قبل أن ينطلق، لذلك تمارس ضغوطاً على "إسرائيل" لكبح أيّ تصعيد مفتوح، وتبحث خلف الكواليس عن وسائل ضغط غير عسكرية تُجبر فصائل المقاومة في غزة على تسليم السلاح والانسحاب تدريجياً من المشهد.

في الوقت نفسه، تسعى واشنطن إلى صياغة "ترتيب أمني" يسمح بوجود قوات إسرائيلية في مساحات واسعة من القطاع، وبذلك تُلبّي طموحات "تل أبيب" في الضبط الأمني، بينما تفرض في المقابل إطاراً سياسياً واقتصادياً يضمن لأميركا دوراً مهيمناً في إدارة أحداث الشرق الأوسط، ويتيح لها الدفع باتجاه توسيع اتفاقيات أبراهام والتنسيق لاحتواء واستنزاف النفوذ الثوري الإيراني.

ثالثاً: الظرف الإنساني الكارثي. فالأوضاع داخل قطاع غزة بلغت درجة من التدهور لا تسمح باندلاع جولة جديدة من القتال، إذ يعيش السكان تحت ضغط إنساني غير مسبوق، من انهيار الخدمات الأساسية إلى شحّ الغذاء والدواء والمياه. ومن المؤكّد أنّ أيّ تصعيد عسكري جديد سيُقابل هذه المرّة بموجة غضب دولي عارمة، قد تترافق مع عقوبات أو تحقيقات دولية واسعة النطاق. و"إسرائيل" تدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك، حتى وإن تجاهلها بعض وزرائها المتطرّفين الذين يواصلون التحريض على استئناف العمليات.

من الحرب الكبرى إلى التصعيد المحسوب

في ضوء ما سبق، تبدو احتمالات تجدّد القتال خلال الشهرين المقبلين محدودة نسبياً، غير أنّها مرشّحة للارتفاع تدريجياً مع مرور الوقت، لتصبح ممكنة خلال الأشهر الأربعة إلى الستة المقبلة.

ويعود ذلك إلى أنّ الهدنة الراهنة تستند إلى تفاهمات سياسية غير مُلزمة، حتى أنّ طرفي القتال ـــــ حركة حماس و"إسرائيل" ـــــ لم يوقّعا على الاتفاق، ما يجعلها هشّة وقابلة للانهيار عند أول اختبار ميداني.

وإضافة إلى ذلك، فإنّ بنود الاتفاق الجوهرية، ولا سيما تلك المتعلّقة بنزع السلاح وإدارة قطاع غزة، تبدو غير قابلة للتطبيق عملياً. فخلال الأيام القليلة الماضية، نفّذت حركة حماس عمليات أمنية داخل القطاع استهدفت جماعات وأفراداً مناهضين لها، في مؤشّر واضح إلى سعيها نحو تعزيز حضورها الأمني وتأكيد موقعها كسلطة حاكمة في مرحلة ما بعد الحرب، ويعني ذلك أنّ الحركة تتصرّف باعتبارها الطرف الوحيد المخوّل باحتكار السلاح وإدارة شؤون القطاع، وهو ما يتعارض جوهرياً مع خطة ترامب التي تتحدّث عن إدارة دولية ومرحلة انتقالية تحت إشراف لجنة سلام.

غير أنّ ما قد يتغيّر فعلاً هو طبيعة العمليات العسكرية الإسرائيلية. فحكومة الاحتلال، التي نجحت في استرداد جميع أسراها الأحياء وتعمل حالياً على استعادة جثامين القتلى، ستسعى إلى إدارة أيّ مواجهة مقبلة بأعصاب باردة، بعيداً عن الانفعالات التي ميّزت سلوكها خلال مراحل الحرب السابقة.

كما أنّها تُدرك تماماً حجم الرفض الدولي المتصاعد حيال سياساتها الإجرامية في غزة، وتعلم أنّ صورتها الخارجية تعرّضت لضرر بالغ في الرأي العام العالمي، لدى الحكومات والشعوب على حدٍ سواء. ومن ثمّ، فمن المرجّح أن تلجأ في الفترة المقبلة إلى عمليات محدودة ومركّزة تُنفَّذ تحت غطاء أمني أو استخباري، بدلاً من حرب شاملة قد تُعيد إلى الواجهة الاتهامات القديمة وتُفاقم عزلتها السياسية.

فالمعارك المرشحة للتجدّد داخل غزة ستحمل طابع "الحرب المحدودة" أو "الصراع منخفض الوتيرة"، أي ستشمل عمليات ضيّقة النطاق واستهدافات مركّزة وتوغّلات موضعية تُدار في صمت نسبي بعيداً عن الإعلام، ولا تنتج عنها خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين، وسيكون الهدف منها ليس السيطرة الميدانية والانتقام المُفرط كما في السابق، بل استكمال مهمة نزع السلاح وتفكيك البنية العسكرية للمقاومة عبر عمليات متفرّقة، وإثبات الحضور الأمني.

وقد صرّح وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأنّ "تدمير الأنفاق جزء رئيسي ضمن مهمة نزع السلاح"، ما يعني أنّ "إسرائيل" تعتبر نفسها في "مهمة قتال مستمرة"، حتى لو توقّفت الغارات الجوية الكثيفة؛ كما أنّ الإعلام العبري، يناقش اليوم بجدّية، وبالتزامن مع احتفالات عائلات الأسرى الإسرائيليين، أوامر كاتس المتعلّقة بإعداد خطة شاملة لهزيمة المسلحين في قطاع غزة إذا تجدّدت الحرب في القطاع.

بهذا المعنى، لا يمكن القول إنّ الحرب انتهت، بل إنّها دخلت طوراً جديداً أقلّ صخباً وأكثر تخطيطاً، يعتمد على "العمليات" بدل "الحروب"، وعلى "المهام الأمنية" بدل "الاجتياحات". وهذه الصيغة تمنح حكومة نتنياهو هامشاً واسعاً للتحرّك العسكري من دون تحمّل تبعات سياسية أو إعلامية كبيرة.

وهنا تتجلّى ملامح الدهاء الأميركي بوضوح؛ فبمجرّد إعلان خطة ترامب وما تبعها من مؤتمر شرم الشيخ، جرى عملياً رفع سكين الإدانة الدولية عن رقبة "إسرائيل". فبعد أن كان نتنياهو يُنظر إليه كمجرم حرب بموجب أحكام المحكمة الجنائية الدولية، وكسياسي منبوذ يتجنّب القادة الدوليون الاستماع إلى خطابه في الأمم المتحدة، ويؤكّدون في المقابل دعمهم لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو1967، أصبح الآن طرفاً في "عملية سلام"، يُمنح بموجبها القدرة على استرداد الأسرى وفرض هيمنة أمنية على قطاع غزة، وذلك بتنسيق مباشر مع ترامب الذي يُفترض أن يترّأس لجنة السلام المكلّفة بإدارة القطاع.

وفي الإطار ذاته، يمكن قراءة المكاسب الأميركية من هذه الخطة على نحو أعمق، إذ تتيح لواشنطن الهيمنة الفعلية على غزة تحت لافتة "إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية"، لتعود بذلك إلى قلب الشرق الأوسط من بوابة "السلام" هذه المرّة، لا من بوابة التدخّل العسكري المباشر. وهكذا، وبعد أن كانت الولايات المتحدة تُتّهم على نطاق واسع بدعم الإرهاب الإسرائيلي، أصبحت في الخطاب الدولي الراهن قائدة مسيرة السلام، والطرف الوحيد القادر على "إنهاء الحرب" وإرساء دعائم الاستقرار ـــــ أو على الأقل، ما تُريد واشنطن أن يبدو كذلك.