من ثبات الجغرافيا إلى ثبات الموقف... مصر ترسم معادلة الأمن القومي

لم تكن مواقف مصر تجاه فلسطين طارئة، بل امتدادًا طبيعيًا لثبات جغرافيٍّ صنع ثباتًا في الموقف والرؤية. فكما لم تتبدّل تضاريس الأرض، لم تتبدّل بوصلتها الوطنية، وظلّت ترى في فلسطين جزءًا من أمنها ووجدانها.

0:00
  • غزة... بوابة الأمن القومي المصري.
    غزة... بوابة الأمن القومي المصري.

في لحظةٍ مفصلية من التاريخ الفلسطيني، وقف مجرم الحرب نتنياهو ليعلن مشروعًا شيطانيًا لتهجير سكان غزة، مدعومًا آنذاك من إدارة ترامب تحت ما سُمّي"صفقة القرن".

لكن مصر، التي تدرك بحسّها التاريخي ووعيها الاستراتيجي ما تمثله غزة من عمقٍ لأمنها القومي، كانت أول من قال "لا".

رفضت القاهرة المشروع منذ لحظته الأولى، لا بشعاراتٍ أو بياناتٍ فقط، بل بموقفٍ عمليٍّ عبّر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي حين رفض دعوة ترامب في ذلك الوقت، حتى لا يُستدرج إلى مشهدٍ إعلاميٍّ يُراد منه تبرير الخديعة أمام العالم.

كان ذلك الموقف تجسيدًا لسيادة القرار المصري واستقلال الإرادة، ولإدراكٍ عميقٍ أن القضية الفلسطينية ليست شأنًا خارجيًا، بل هي شأنٌ يمسّ جوهر الهوية والأمن القومي لمصر.

لم يكن ذلك موقف دولةٍ تبحث عن مجدٍ دبلوماسي، بل موقف وطنٍ يدرك أن أمنه الوطني لا يكتمل إلا بتحرير فلسطين واستقلالها، وهو ما لخّصه المفكر الكبير جمال حمدان في عبارته الخالدة:

"مصر لا تستطيع أن تنعزل عن فلسطين، لأن أمنها القومي يبدأ من هناك."

من خطة ترامب إلى اتفاق إنقاذ غزة

بحنكةٍ متجذّرة في مدرسة الدبلوماسية المصرية العريقة، التقطت القاهرة ما سُمّي لاحقًا "خطة ترامب"، وأعادت توجيهها نحو هدفٍ واقعي: وقف حرب الإبادة على غزة، وإنجاز صفقة تبادل الأسرى، وتهيئة أرضية لمسارٍ سياسيٍ يضمن استمرار التهدئة.

تحركت مصر بين العواصم، من واشنطن إلى الدوحة وأنقرة، لتثبيت التفاهمات وضمان التنفيذ، حتى جاء مؤتمر شرم الشيخ ليشكّل ذروة هذا المسار؛ حيث ترأس الرئيس السيسي إلى جانب ترامب وقادة الدول الضامنة - تركيا وقطر- اجتماعًا حضره قادة كبار من دول العالم، في تأكيدٍ على أن القاهرة لم تعد مجرّد وسيط، بل مركز القرار وصاحبة الكلمة المسموعة.

ذلك المؤتمر لم يكن تجمعًا بروتوكوليًا، بل لحظة استعادةٍ لدورٍ تاريخيٍّ سعت قوى كثيرة لإقصائه، فإذا بمصر تستعيد موقعها بثقةٍ وعقلٍ بارد، وبمزيجٍ من الصرامة والهدوء الذي تميّز به أداؤها منذ اليوم الأول للعدوان.

وهنا تجسّد الوعي بالتاريخ في أبهى صوره، كما قال محمد حسنين هيكل:

"السياسة في جوهرها وعي بالتاريخ، ومصر حين تدافع عن فلسطين إنما تدافع عن نفسها وعن مستقبلها."

غزة... بوابة الأمن القومي المصري

ولم يكن نجاح مصر في فرض التهدئة سوى امتدادٍ طبيعيٍ لموقفٍ ثابتٍ عبر التاريخ؛ فما قامت به القاهرة لم يكن ردَّ فعلٍ ظرفيًّا، بل كان امتدادًا لموقفٍ حضاريٍ متجذّر.

فغزة ليست مجرد جغرافيا على حدود مصر، بل هي خاصرتها الشرقية ونقطة التماس الأولى في معادلة أمنها القومي، فهي - كما وصفها جمال حمدان - "امتداد طبيعي للجسد المصري، وجزء من حدوده الحية التي لا تنفصل عن أمنه الوطني.

ومن هذا المنظور أيضًا، رأى محمد حسنين هيكل أن "الأمن القومي المصري يبدأ من الشرق، وكل ما يجري في فلسطين ينعكس مباشرة على وادي النيل."

لقد تجاهلت مصر حملات الشيطنة التي استهدفتها إعلاميًا، وظلّت تبذل أقصى ما يمكن رغم التحديات الجسيمة - من أزمة سدّ النهضة إلى تعقيدات الملفين الليبي والسوداني - لكنها لم تتخلَّ يومًا عن مسؤوليتها التاريخية تجاه فلسطين.

فهي تدرك أن أي مساسٍ بغزة هو تهديدٌ مباشرٌ للأمن القومي المصري، وأن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن القاهرة نفسها، وعن فكرة الدولة ذات القرار الحرّ والموقع الفاعل في محيطها العربي.

وفي كل أزمة فلسطينية، كانت القاهرة حاضرة، وفي كل تهديد لغزة، كانت مصر السند والدرع.

عبء جديد... ومسؤولية متجددة

وإذا كانت مصر قد نجحت في تثبيت التهدئة ووقف العدوان، فإن ما تحقق يفتح أمامها بابًا جديدًا من المسؤولية.

فهذا الإنجاز يُلقي على عاتقها تكليفًا تاريخيًا جديدًا: أن تمضي بخطواتٍ أكثر جرأة، بالتعاون مع الأشقاء العرب والدول الضامنة، لأخذ المبادرة نحو التأكيد على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة طبقًا لقرارات الأمم المتحدة.

فالمهمة لا تتوقف عند وقف النار أو صفقة تبادل الأسرى، بل تمتدّ إلى إطلاق مسارٍ سياسيٍّ جديدٍ يضمن الحقوق الفلسطينية كاملة، ويعيد الاعتبار إلى القانون الدولي بعد أن حاولت القوة طمسه.

وقيام الدولة الفلسطينية لا يعني فقط تحقيق حق سياسي، بل هو - كما كتب عبد الوهاب المسيري - اختبارٌ لضمير العالم وقدرته على إنصاف المظلومين.

وفي الوقت ذاته، تدرك القاهرة أن لا سلام حقيقياً من دون وحدةٍ فلسطينية، وأن الانقسام لا يخدم سوى الاحتلال.

لذلك تعمل - ويجب أن تستمر في العمل - على رعاية حوارٍ فلسطيني معمّق بين فصائل المقاومة، يفضي إلى تطوير منظمة التحرير الفلسطينية وتوحيد الموقف الوطني، بحيث تعود المنظمة بيتًا جامعًا لكل الفلسطينيين، لا ساحة تنازع بينهم، في حوارٍ ترعاه القاهرة كما كانت دومًا، برؤيةٍ تجمع ولا تُقصي، وتوحد ولا تفرّق.

من ثبات الجغرافيا إلى ثبات الموقف

لم تكن مواقف مصر تجاه فلسطين طارئة أو موسمية، بل امتدادًا طبيعيًا لثبات جغرافيٍّ صنع ثباتًا في الموقف والرؤية.

فكما لم تتبدّل تضاريس الأرض، لم تتبدّل بوصلتها الوطنية، وظلّت ترى في فلسطين جزءًا من أمنها ووجدانها.

تغيّرت العصور وتعدّد الرؤساء، لكن المبدأ بقي واحدًا: أن أمن مصر يبدأ من الشرق، وأن كرامة الأمة لا تُصان إلا بصون حق الفلسطيني في أرضه وحياته.

فمن الفالوجة إلى غزة، ومن رفح إلى شرم الشيخ، ظل القرار المصري محكومًا بفكرة مركزية: أن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن الذات، وأن تراجع الموقف هناك يعني اهتزازًا في الداخل هنا.

وهكذا، تعود القاهرة اليوم لتؤكد دورها المحوري لا كوسيطٍ فحسب، بل كصاحبة رؤيةٍ وصانعة قرارٍ ومسؤولية، تجمع ما تفرّق وتبني ما تهدّم، وتعيد للعروبة معناها الحقيقي: التضامن والقدرة على الفعل.

وفي زمنٍ تتراجع فيه المواقف، اختارت مصر أن تتقدّم، لتقول للعالم إن العدالة لا تُنتزع بالقوة وحدها، ولا تُصان بالإرادة وحدها، بل حين تتعانق القوة مع الحق، وتُساق بإرادة لا تنحني.

فالتاريخ علّمنا، والجغرافيا أكّدت، أن إرادة مصر لا تُكسر... لأنها باقية بثبات الموقف وثبات الأرض.