منتدى السلام والأمن في دهوك.. زراعة النفوذ الناعم "فوضى مُسيّرة وشرق أوسط جديد"!

التنسيق العالي في النسخة السادسة بين الأكاديميين وصنّاع القرار يثير تساؤلاً حول تمايز الأدوار: أيّ توصيات ستُدرج في السياسات؟، وأيّها يظلّ تحليلاً فكرياً؟

0:00
  • التنسيق في النسخة السادسة بين الأكاديميين وصنّاع القرار يثير تساؤلاً حول تمايز الأدوار.
    التنسيق في النسخة السادسة بين الأكاديميين وصنّاع القرار يثير تساؤلاً حول تمايز الأدوار.

مرّت مرور الفساد أعمال منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط (MEPS)، الذي عُقد في محافظة دهوك العراقية شمالاً، بحضور مسؤولين رفيعي المستوى التمثيلي والوصفي!، وعلى رأسهم رئيس الوزراء المنتهية ولايته السيد محمد شيّاع السوداني، يسبقه في الدعم والتنفيذ والكلمة على المنصة السيد مسعود برزاني وعديد من الشخصيات، ولعلّ ما يُثير الاستغراب من حيث الحضور والتوقيت الكردي "مظلوم عبدي" قائد ما يسمّى بقوات سوريا الديمقراطية الذي استُقبل وودّع كالفاتحين! 

أقول مرّت بلا تفكيك ويا للأسف؛ لأنّ هكذا مؤتمرات باتت اليوم واحدة من ساحات النفوذ الناعم التي تُستثمر من الجهات المنظّمة، لتُعاد فيها بلورةُ القرار السيادي العراقي من خلال أدوات فكرية ودبلوماسية، تبدو في ظاهرها مدنية ومحايدة، لكنّ واقعها يفضح وظيفة استراتيجية أعمق.

فإذا راجعنا التطوّر للمنتدى ما بين النسخة الخامسة في دهوك عام 2024 إلى النسخة السادسة في 2025، سنجد أنّ المنتدى شهد تحوّلاً من منصة بحثية أكاديمية إلى آلية تأثير سياسي ـــــ تنسيقي يضمّ كبار المسؤولين العراقيين والإقليميين والدوليين برعاية الجامعة الأميركية، بل تُطلَق ورش وتوصيات قد تترجم إلى سياسات تنفيذية تحت غطاء "الاستقرار" و"إدارة الأزمات".

في النسخة الخامسة عام 2024، التي انعقدت في المكان نفسه مع زخم وتمثيل حكومي ورسمي أقلّ!، ركّز المنتدى في ظاهر أعماله على قضايا الحوكمة والتنمية ومناهج مكافحة التطرّف، مع ورش حول التغيّر المناخي والحكم المحلي، لكنّ المضمون ركزّ في ثلاثة مرتكزات خطيرة:

1ـــــ تكريس الشرعية الأمنية الأميركية والنيتو من بوابة التحالف كضمانة للاستقرار.

2ـــــ ترويض السيادة الوطنية من خلال أدوات الإغفال الناعم والضغط الاقتصادي.

3ـــــ إعادة تسويق المقاومة والحشد الشعبي كـ "مهدّد أمني" تحت مظلة خطاب مكافحة التطرّف.

لكن، خلال النسخة السادسة التي انطلقت في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 في الجامعة الأميركية تحت عنوان "الفوضى المسيّرة؛ شرق أوسط جديد؟، تحوّل وجه المنتدى بوضوح إلى حضور سياسي وتنفيذي قويّ، رافقه توصيف أمني ـــــ اقتصادي لتحدّيات المنطقة، ثم دعوة إلى مراجعات استراتيجية، تعكس طموحاً لتوظيف مخرجات منصة MEPS كمقترحات قابلة للتطبيق، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى استقلالية القرار العراقي؟!، ولا سيما عندما يتحوّل هذا المنبر إلى ما يشبه مرجعية استشارية رفيعة تُعبّد الطريق أمام تدخّلات استراتيجية غير مباشرة.

من وجهة نظر ثلاثية المحاور يمكن انتقاد النسخة السادسة بناءً على مخرجات النسخة الخامسة وما رافق الانتقال إليها: أولاً: إنّ هناك محاولة لتكريس شرعية أمنية خارجية من خلال ذريعة التحالف الدولي ومنصات مثل MEPS تُسوّق أنّ استقرار العراق لا يمكن إلا أن يكون من خلال مظلة شراكة أمنية دولية، وهذا يعيد إنتاج الاعتماد الأمني بديلاً عن قيام دولة عراقية بمؤسساتها الوطنية، مع أنّ المنظّمين يحرصون على تقديم المنصة كحوار متعدّد الأطراف، فإنّ منطق التوصيات قد يُستخدم لاحقاً لتشريع شراكات استراتيجية مع دول غربية تحت غطاء فني وأكاديمي وعلى رأسها النيتو الذي يُطبخ بقاؤه حالياً على نار هادئة ليكون بديلاً عن الانسحاب الأميركي.

ثانياً: إنّ ربط الإصلاح الاقتصادي بالتوصيات الأمنية في المنتدى؛ يُمثّل ترويضاً ناعماً للسيادة، إذ إنّ النسخة الخامسة فتحت الباب للتطوير والتنمية، لكن من دون ضمانات واضحة لحماية القرار الوطني من إعادة صياغة من قبل مستثمرين أو شركاء لديهم شروط أمنية أو سياسية؛ أما في النسخة السادسة: فقد تعزّز هذا الربط. وما يمكن أن يُخشى منه: هو أنّ هذه المنصة ستصبح أداة لترسيخ نفوذ اقتصادي دولي من خلال بوابة استثمارات مشروطة تفرض أجندة أمنية أو استراتيجية تُبلور السياسة العراقية وفق معايير ليست بالضرورة وطنية أولاً.

ثالثاً: إنّ في توصيف القوى المحلية المسلحة مثل "الحشد الشعبي" أو "المقاومة" من خلال منابر مثل MEPS في النسخة السابقة لا يسقط بالتقادم؛ بل يعدّ درساً أمنياً يُعيد تسويقها كتهديد محتمل ضمن إطار "مكافحة التطرّف" من دون الاعتراف الكافي بدورها الوطني والتاريخي.

من الناحية الفنية والمهنية، إنّ التنسيق العالي في النسخة السادسة بين الأكاديميين وصنّاع القرار يثير تساؤلاً حول تمايز الأدوار: أيّ توصيات ستُدرج في السياسات؟، وأيّها يظلّ تحليلاً فكرياً؟ وهل هناك آليات شفّافة لرقابة برلمانية وقضائية على توصيات المنتدى قبل تحويلها إلى اتفاقات؟ فمن دون مثل هذه الآليات، تصبح مخرجات MEPS وسواها بوابة لتصدير نفوذ ناعم تحت ستار "حلول استراتيجية" وليس خدمة للسيادة الوطنية.

ومن وجهة نظر عراقية مستقلة، أرى أنّ المطلوب الآن: هو رفض أيّ تحويل لتوصيات مطبوخة أميركياً إلى تفويض مفتوح يلغّي الفاصل بين الحوار الأكاديمي والقرار التنفيذي، بإطار دستوري واضح، وفق رقابة برلمانية ومدنية تضمن أن تكون الأجندة الوطنية ـــــ لا أجندة الجهات الداعمة ـــــ هي الأساس.

كما ينبغي فتح مسار مجتمعي ـــــ سياسي حول مستقبل أيّ شراكة أمنية دولية، وضمان أنّ قضايا الوطن الاستراتيجية تُعالج داخلياً وفق قوانين واضحة ودستور وإلّا يمكن للندوات الكبرى أن تتحوّل من منصات أفكار إلى أدوات تأثير، وسيادة العراق قد تُكتب من الخارج لا من داخل قاعة صنع القرار.