هل "إسرائيل" مُحصّنةٌ أمام الحرب الأهلية؟
تعيش "إسرائيل" اليوم وضعاً اجتماعياً صعباً ومعقداً، وتضرب الخلافات عميقاً شرائح مجتمعها والأهم، أنها تعيش أزمة انعدام ثقة تقترب من حدود الكراهية، بل وتتجاوزها في كثير من الأحيان.
-
يتسم الخطاب العام في "إسرائيل" بقطبية حادة غير عادية.
قبل يومين، كتب الصحفي الإسرائيلي بن كسبيت، على خلفية قرار الحكومة الإسرائيلية إقالة رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي رونين بار، والتخطيط لإقالة المستشارة القضائية للحكومة، قائلاً: "لقد زالت آخر الكوابح، لقد توقف نتنياهو عن الخوف، وينبغي لنا جميعاً أن نخاف". كما حذّر رئيس المحكمة العليا المتقاعد، أهارون باراك، من أن "إسرائيل" قد تنزلق نحو حرب أهلية، وأضاف: "المشكلة الرئيسية للمجتمع الإسرائيلي هي الجبهة الثامنة، في إشارة إلى الجبهات السبع التي تُقاتل عليها "إسرائيل"، هي الشرخ الحاد بين الإسرائيليين أنفسهم"، ثُم ختم في مقابلة مع موقع يديعوت أحرونوت: "هذا الخلاف يتفاقم، وأخشى أن تكون نهايته مثل قطار خرج عن مساره ينحدر إلى الهاوية، ويؤدي إلى حرب أهلية".
ومع ذلك، فإن الحديث عن احتمال اندلاع حرب أهلية في "إسرائيل" هو حديث يصعب "هضمه" ليس فقط داخل "إسرائيل"، بل لدى بعض العرب الذين سحرت "إسرائيل" قلوبهم وعقولهم "بمثاليتها". فأولئك الذين يعتقدون أن "إسرائيل" مُحصّنة ضد الحرب الأهلية يعانون من العمى أو الغطرسة، أو من مرض الكبرياء، الذي يجعلهم يفترضون "أن شعب إسرائيل، أو دولة إسرائيل"، أفضل من الآخرين، ومحمية من الشرور التي تحدث للآخرين، ومجهزة بآليات دفاعية فريدة لا يملكها الآخرون". لقد دفعت الغطرسة فيما مضى العديد من الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأنه لن تكون هناك عمليات اغتيال لزعماء سياسيين في "إسرائيل"، فإذا بإسحاق رابين يسقط قتيلاً برصاصٍ إسرائيلي وبأيدٍ إسرائيلية، فأصيبوا بالدهشة وأسقط بين أيديهم.
تعيش "إسرائيل" اليوم وضعاً اجتماعياً صعباً ومعقداً، وتضرب الخلافات عميقاً شرائح مجتمعها والأهم، أنها تعيش أزمة انعدام ثقة تقترب من حدود الكراهية، بل وتتجاوزها في كثير من الأحيان.
فكثير من الإسرائيليين يفترضون أن هناك "طرفاً آخر" يريد إيذاءهم، أو أنه يشكل خطراً على "الدولة". وهنالك استبداد الأغلبية التي تستغل سلطتها باسم الأصوات التي تملكها لإقصاء الآخرين وإسكاتهم، فلا سعي للاتفاق في "إسرائيل"، بل استخدام القوة فقط، بكل صورها، لفرض الرؤى والمواقف.
في ظل هذه الأجواء، تبدو صورة "الوحدة" التي تحاول "إسرائيل" رسمها عن نفسها بزَعمِ أنها "دولة قانون" "يهودية وديمقراطية"، كما تبجّح نتنياهو، بعيدة كل البعد عن تمثيل الواقع الذي تعكسه صورة الصراع الدائر اليوم بين مختلف شرائحها. وحتى في هذه القضية الأيديولوجية المركزية، التي من المفترض أن تُحدد طبيعة "دولة إسرائيل" وهويتها، هناك خلاف حول معنى هذه الصيغة؛ فما هي الدولة اليهودية وما هي الدولة الديمقراطية؟ فالصراع على صورة "الدولة اليهودية" الذي بدأ مع بداية تأسيس الحركة الصهيونية ونشاطها، بين أولئك الذين يريدون أن يروا "إسرائيل" دولةً يهودية وفقاً للشريعة، وربما يمينية صهيونية، وأولئك الذين يريدون رؤيتها دولة يهودية علمانية ليبرالية ذات هوية ثقافية تقدّمية، ما زالت نيرانه تتأجج كل يوم.
هذا الانقسام القديم العميق تصاعد في السنوات الأخيرة ويزداد حدة بسبب الأزمة السياسية الحادة التي عصفت بـ"إسرائيل" قبل السابع من أكتوبر، مع أزمة التعديلات القضائية وتصاعدت حدته بعد هذا التاريخ مع استمرار الحرب وانعكاساتها، ما أضعف النظام السياسي الإسرائيلي وقوّض بشكلٍ كبير ثقة الجمهور في المؤسسات السياسية والحكومية. كما فاقمت الخلافات الشخصية والخطاب الشعبوي الذي ميّز القيادات السياسية، النزاع وتكثّف العداء المتبادل بين، وداخل، المعسكرات السياسية المتصارعة، فضلاً عن انتشار خطاب "الهوية الضيق"، الذي غذّته عدوانية الشبكات الاجتماعية إلى حدٍ كبير، على خلفية الاستقطاب الحاد بين مؤيدٍ ومعارضٍ لبنيامين نتنياهو.
تبدو الأزمة الحالية أولاً وقبل كل شيء، في جوهرها، أزمة هوية متعددة الأبعاد، فهي في الأساس صراع حول بنية القوة والتأثير في المجتمع الإسرائيلي، ولا يبدو أن هناك نهاية للصراع المُعقّد بين المعسكرات المختلفة. إنها أزمة مستمرة، مدمرة وغير مسبوقة من حيث خطورتها ونطاقها وعواقبها، ويصعب تقدير كيف وأين ستتطور. وحتى لو توصلت الأطراف إلى نوع من التسوية في المجالات القانونية، فمن المشكوك فيه أن تنتهي الأزمة العميقة القائمة على مشاعر الريبة والعداء العميقة، وعلى تصوراتٍ أساسية متجذرة عن هوية "إسرائيل" وطابعها.
هذه الأزمة الداخلية التي تعصف بـ"إسرائيل" اليوم، هي في جوهرها صراع محموم حول تعريف هُوية الدولة والمجتمع، لن تخمد نيرانها بل ستتسع وتتعمق مع اتساع نفوذ اليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي، واشتداد صراعه المحموم من أجل تحقيق انتصارٍ حاسم، عبر استثمار يمينية المجتمع الإسرائيلي وصعود قوته، بشكل يقودُ إلى واقعٍ سياسيٍ وقانوني، وربما اجتماعي، جديد داخل "إسرائيل". في ظل هذه الأجواء، يعمل نتنياهو اليوم مع اليمين المتطرف والمتدينين، على بناء تحالفاتٍ يمينية متطرفة، واسعة وثابتة، قادرةٍ على فرض صورة نظام الحكم التي يريدونها بما يتناسب مع طموحاتهم المتطرفة وخططهم الاستراتيجية.
يتسم الخطاب العام في "إسرائيل" كذلك بقطبية حادة غير عادية، فكل طرفٍ يرى في موقف الطرف الآخر خطيئة وخطراً وجودياً. وقد عمل اليمين المتطرف، في السنوات الأخيرة، وبطرق مختلفة، على إسكات مواقف "الآخر" من خلال حسم الخلاف بالسيطرة على كامل مساحة الخطاب الشرعي، وإخراج الخصم السياسي من "دائرة الشرعية" عن طريق التخويف والتخوين، وما سلسلة القوانين العنصرية التي جرى تشريعها، ومحاولة تقويض الدولة العميقة ومواصلة الاندفاع نحو تشريعات سريعة تهدف إلى تغيير طبيعة النظام في "إسرائيل"، إلا انتهازٌ لفرصة سانحة لتحقيق حلم اليمين الصهيوني المتعلق بإعادة صياغة "الدولة اليهودية"، وفق مقاسات اليمين المتطرف، وما السعي للسيطرة على الأجهزة الأمنية وعلى المحكمة العليا والجهاز القضائي الإسرائيلي إلا مظهرٌ من مظاهر هذا الاتجاه المتنامي.
إنه اتجاه يعطي الحق في معاملة الآخرين، بمن فيهم مواطنو "الدولة اليهود"، كعدو أساسي وأبدي ويزرع اليأس والخوف والعداوة التي ستقود حتماً إلى استمرار الصراع، بما يقوّض الصورة الزائفة "للهوية الإسرائيلية المشتركة" بل "والعيش المشترك".
من المؤكد أن جرائم الكراهية والعنصرية هذه لا تضر بالفلسطينيين فحسب، بل تضر بـ"الدولة" نفسها وبالمجتمع الإسرائيلي ككل، فمثل هذه الأحداث تزيد من الانقسام وتُحرّض على "الدولة" وتشكل وقوداً للعناصر المتطرفة التي تغذي الصدع بين قطاعات المجتمع المختلفة. إن الصعوبة التي تخلقها ظواهر الكراهية والنظرة "الغيرية" للآخر ليست فقط صعوبة أيديولوجية أو نظرية، أو صداماً بين الأخلاق والتقاليد، بل هي صعوبةٌ اجتماعية تتعلق بحياة اليهود اليومية الفعلية، وكيفية تعايشهم معاً في "دولة إسرائيل" اليوم.
على أي حال، علينا أن لا نستبعد احتمال تدهور المواجهة بين الأطراف إلى درجة العنف، فإمكانية العنف "الأيديولوجي المنظم" موجودة في المجتمع اليهودي، ومن الممكن افتراض أن الأمور قد تتغير إلى الأسوأ بسرعة ومن دون سابق إنذار في ظل تعمق الأزمة في المستقبل القريب. وما استخدام مفردة "الحرب الأهلية" إلا تعبير عن الإحساس بالخطر الشديد من نتائج الصدع الاجتماعي الحاد والمزمن بين "الإخوة الأعداء" في "إسرائيل" المُنقسمة.
إن الصراع الدائر بسبب الحرب ونتائجها، والأسرى الإسرائيليين، وتغوّل الحكومة على مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية وما يرافقه من موجة كراهية وعنصرية خلال الأحداث الأخيرة، لن يقود على الأرجح إلى التوصل إلى تسوية ما بين الأطراف المتنازعة التي قد تكون وصلت إلى نقطة اللاعودة، وليس مؤكداً أنه بالإمكان إعادة العجلة إلى الوراء مرةً أخرى، فالأصوات الصاخبة هذه الأيام تكاد تُطيح النسيج الحساس والهش للمجتمع الإسرائيلي، وربما، مستقبل "دولة إسرائيل" ككل.