يسار التحرير
مهمة قطاع واسع من اليسار اليوم هي مراجعة مواقفه، والسير على طريق الوحدة النضالية مع المقاومة التي تخوض المعركة على الأرض ضد العدو الرأسمالي.
-
مكان اليسار الحقيقي هو الاصطفاف إلى جانب جماهير الكادحين.
في لحظة إدراك ليبرالية بحتة تذكر الليبراليون أن المقاومة التي تخوض الحرب اليوم ضد العدو الصهيوني تأتي من خلفيات دينية وبالتحديد إسلامية. ولكون الليبراليين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، ويمجّدون قيم الحرية الغربية، فقد أدركوا ضرورة إعلان موقفهم المعادي للمقاومة على قاعدة فكرية مرتبطة بالعلمانية، التي تشكل الحل الوحيد، بنظرهم، لوضع حد للحروب الطائفية في منطقتنا.
ولأن الليبراليين يكذبون حتى لو صدقوا، فإن لحظة الإدراك تلك تنحصر بالمقاومة التي تتصدى للعدو الإسرائيلي. أما وصول جماعات مسلحة إلى حكم بلد مثل سوريا، ورغم ما تطرحه هذه المجموعات من شعارات مغرقة في الطائفية، وما تمارسه من مجازر بحق الطوائف والأديان المختلفة، فكل هذا يُصنَّف لديهم فعلاً ثورياً تحررياً يبشّر بالحرية والديمقراطية، وإن شابَته بعض "التصرفات الفردية" غير المنضبطة.
لا يتوقع عاقل وقوف الليبراليين مع المقاومة أو فكرها، فهم أكثر العارفين أن الحروب في منطقتنا لا علاقة لها بطائفة أو دين، وأنها حروب استعمارية بحتة تستعمل أدوات محلية تحت شعارات دينية أو قومية أو حتى يسارية.
لقد أدَّت ظروف المواجهة مع العدو بعد عملية طوفان الأقصى دوراً في دفع هؤلاء الليبراليين إلى اللعب على الحبال، وتصدير موقف يبدو في ظاهره معادياً للاستعمار، لكنه لا يستند إلى ثوابت وطنية، بل يلبس قناع الإنسانية. فكأن الضحايا الذين نشاهد مقتلهم على الشاشات، ذهبوا ضحية كارثة طبيعية أو حادثة طارئة. يُسقط السيناريو الليبرالي تاريخ الصراع، لتبدو الأمور وكأن السابع من أكتوبر هو لحظة البداية، لنعود بعدها إلى تقييم النتائج تبعاً لعدد القتلى والجرحى والمنازل والمدارس والمستشفيات التي دمرتها الحرب، وبحسب المحصّلة الرقمية نحدد المنتصر والمهزوم، ثم نحاكمهما على خياراتهما.
وجد هذا السيناريو الإنساني الليبرالي مؤيّدين له في أوساط اليسار العربي، الذي يصدّر وهماً مفاده أن المعركة بين العدو الإمبريالي الفاشي، والمقاومة الخارجة من رحم معاناة اللاجئين والكادحين، تحتمل طريقاً ثالثاً. يغفل هذا اليسار أن الأصل في تحديد موقفه من أي معركة، هو الانتماء الطبقي لطرفي الصراع، وطبيعة هذا الصراع. المعركة التي تدور رحاها على أكثر من أرض عربية هي معركة تحرير بين طرف محتل ينتمي إلى المعسكر الاستعماري، وآخر ينتمي إلى الطبقات الكادحة، مقهور طُرد من أرضه وحُرم أبسط مقومات الحياة. أبناء اللاجئين المحاصرين داخل مخيماتهم في غزّة والضفة الغربية منذ أكثر من سبعين عاماً، هم الكادحون الحقيقيون الذين يملكون كل الحق في مقاومة محتلّيهم ضمن الظروف والوسائل المتاحة لهم، ولا يمكن اعتبار أي فعل مقاوم يقومون به مغامرة غير محسوبة العواقب، لأن المغامرة الحقيقية هي القبول بالأمر الواقع وتحمّل عواقبه، من قتل وتشريد وفقر واستسلام للمشاريع الاستعمارية، بما يمس مصالح الجماهير ويرسّخ سلطة التحالفات العميلة الحاكمة. على الجماهير مواصلة كفاحها مرة بعد مرة، حتى تصل إلى تغيير ظروف واقعها بما يسمح لها بالوصول إلى هدفها النهائي، هذا ما قاله لينين: لولا تمرين ثورة 1905 لما انتصرت ثورة أكتوبر عام 1917.
مكان اليسار الحقيقي هو الاصطفاف إلى جانب جماهير الكادحين التي تقاوم النظام الرأسمالي وأدواته، بغض النظر عن الخلفية العقائدية التي تنطلق منها. هذا الموقف اليساري ليس مبنيّاً على التحليل السياسي فحسب، بل هو موقف ذو جذور ماركسية مبنيّة على تحديد التناقض مع الرأسمالية والاستعمار، كتناقض رئيس له الأولوية على التناقضات الثانوية داخل المجتمعات. لقد أثبتت التجارب الثورية العظيمة في روسيا والصين وفيتنام وكوبا أن وحدة الكادحين من مختلف المنطلقات العقائدية هي الطريق الوحيد نحو الانتصار على الرأسمالية والاستعمار، بل إننا نستطيع القول إن غياب هذه الوحدة النضالية هو أحد أسباب فشل الثورات في جميع دول المركز الرأسمالي.
مهمة قطاع واسع من اليسار اليوم هي مراجعة مواقفه، والسير على طريق الوحدة النضالية مع المقاومة التي تخوض المعركة على الأرض ضد العدو الرأسمالي. أن يكرّر تجربة "لاهوت التحرير" التي شهدتها أميركا اللاتينية، فيكون هو "يسار التحرير" انسجاماً مع مقولة لينين في كتابه مرض اليسارية الطفولية: "إن موقف الحزب من أخطائه هو أحد أهم وأفضل معايير جدية الحزب، وما يؤدّيه من مسؤولية أمام طبقته، وأمام جماهير الكادحين". تصبح هذه المهمة أكثر إلحاحاً في ظل صعود التيار الأكثر يمينية وفاشية في المعسكر الرأسمالي، ودعمه للتيار الفاشي المجرم في الكيان الصهيوني. مكان اليساريين اليوم خلف المتاريس الفكرية والثقافية والعسكرية، لأن المعركة شرسة، والعدو لن يتراجع قبل أن يُلحق الهزيمة بكل القوى الثورية.