مشروع الهيمنة الصهيو-أميركي.. وغياب مشروع المواجهة القومي واليساري
الفكر القومي والفكر الماركسي كلاهما مأزوم لأنهما لا يمتلكان مشروعاً أو رؤية لمواجهة ما يجري حالياً في المنطقة.
-
الخطاب القومي بدأ يتراجع بعد وفاة جمال عبد الناصر.
تواجه المنطقة العربية مرحلة مفصلية من تاريخها في ظل تغول المشروع الصهيوني الأميركي في المنطقة وصولاً إلى العدوان الحالي الذي تشنه "تل أبيب" وواشنطن على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وعلى مدى العقود الماضية لوحظ تراجع دور الحركات اليسارية والقومية في المنطقة العربية وتصدر الجماعات الإسلامية للمشهد السياسي، سواء أكانت تلك المنضوية في محور المقاومة، أم تلك المعارضة له.
في هذا الإطار يلاحَظ شبه غياب تام لدور الحركات اليسارية والقومية عن الساحة، إلا بما يقتصر على إصدار البيانات الداعمة للمقاومة من قبل بعض التشكيلات القومية واليسارية، فيما انضم عدد كبير من اليساريين السابقين إلى المعسكر الأميركي بذريعة المناداة بالديمقراطية والتعددية.
تطور خطاب اليسار
والجدير ذكره أنه في ما يتعلق بدور اليسار والحركة الشيوعية العربية اليوم تجاه قضية فلسطين ومشروع الوحدة العربية، للأسف فإن اليسار والحركة الشيوعية العربية ليسا موحدَين بل هم مشرذمان وهنالك العديد من التشكيلات التي تصنف نفسها على أنها يسارية وأنها شيوعية ولكنها لا تجتمع في برنامج واحد أو لا تمتلك رؤية خصوصاً تجاه قضية فلسطين ومشروع الوحدة العربية إلا من كان مؤيداً يكتفي بالشعارات وليس له برنامج عمل في هذا الإطار.
أما كثيرون من جماعة اليسار والحركة الشيوعية فإنهم تخلوا عن شعاراتهم السابقة وأصبحوا جزءاً من الأجندة الأميركية في إطار ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني التي يمول قسم منها من دوائر استخبارية غربية.
وإذا عدنا إلى مرحلة الأربعينات، فقد انتقلت مواقف الحركات اليسارية تحديداً من موقفٍ كان ملتبساً في الأربعينات تجاه قضية فلسطين نتيجة قبول الأحزاب الشيوعية الرسمية بقرار التقسيم، وقد ذهب الحد بالبعض إلى أن يدعم قيام "دولة إسرائيل".
لكن في أواخر الستينات من القرن الماضي، انتقلت الحركات اليسارية إلى موقف مغاير، حيث حصل تقارب بين الحركة اليسارية والخطاب القومي، خصوصاً مع تجذير صراع الأمة العربية في مواجهة الإمبريالية الأميركية.
لكن بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب دافيد في العام 1979، وخصوصاً بعدما بدأ نفوذ الاتحاد السوفياتي يتراجع بدءاً من العام 1985 وصولاً إلى انهياره في العام 1991 وحظر الحزب الشيوعي في روسيا لسنوات عدة، فإن عدداً كبيراً من نخب اليسار العربي بدأ يتموضع في إطار البرامج الأميركية، خصوصاً بعد ضعف وتراجع الاتحاد السوفياتي، وهذا مهد لضرب المشروع اليساري والخطاب اليساري في المنطقة، بدءاً من التسعينات والتي تفاقمت تحديداً مع مرحلة ما يسمى الربيع العربي، حيث انضوى الكثير من التشكيلات اليسارية في الانتفاضات التي نظمتها الولايات الممتحدة الأميركية وعدد من الأفرقاء في إطار المشروع الأميركي في المنطقة.
تطور الخطاب القومي
بموازاة ذلك، فإن الخطاب القومي بدأ يتراجع بعد وفاة جمال عبد الناصر، ثم تصاعد الخلافات بين البعث السوري والبعث العراقي وصولاً الى إطاحة صدام حسين في العام 2003 ثم ليبيا في العام 2011 وصولاً إلى سقوط حكم البعث في سوريا في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
بذلك، بات الفكر القومي والفكر الماركسي كلاهما مأزوم، لأنهما لا يمتلكان مشروعا أو رؤية لمواجهة ما يجري حالياً في المنطقة. وتراوح مواقف اليساريين والقوميين بين من ارتضى بالمشروع الأميركي كغطاء له وبين من يناهض هذا المشروع ولكن للأسف لا يمتلك رؤية واضحة ومشروعاً واضحاً يمكن أن يطرحه كبديل.
والجدير ذكره أن التقارب بين الفكر القومي والفكر الماركسي، أو حتى نكون أكثر دقة، اعتماد الكثير من القوميين للفكر اليساري قام بذلك كردة فعل على نكسة العام 1967 لا عن تمعن بالفكرة وصياغة لمشروع واضح المعالم للمواجهة بعد وفاة عبد الناصر.
في المقابل فإن اعتماد عدد كبير من النخب للفكر اليساري في السبعينات من القرن الماضي جاء نتيجة "موضة" صعود اليسار الجديد غير المبني على الفكر الماركسي اللينيني، علماً أن هؤلاء اليساريين اتخذوا من اليسار الغربي لا السوفياتي نموذجاً لهم، علماً أن المحافظين الجدد انبثقوا من هذ اليسار الغربي الجديد. وهذا يفسر سهولة انتقال عدد كبير من النخب اليسارية إلى أقصى اليمين وإلى المظلة الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
وبشكل عام لا يمكن فهم الصراعات بين القوميين العرب أنفسهم إلا من منطلق طبقي. والجدير ذكره أن نخب القوميين العرب في النصف الأول من القرن العشرين كانت ضمناً تمثل مصالح طبقة الوجهاء وملاك الأراضي الكبار، بعد ذلك دخلنا في مرحلة الطبقة البورجوازية التي عبرت عنها بالدرجة الأولى حركة القوميين العرب والبعثيون.
في المقابل فإن الناصريين كانوا أقرب إلى الطبقات الفقيرة ونادوا بمصالحها، وهذا هو على ما أعتقد سر الصدام بين أجنحة في الحركة القومية العربية، بين من انحاز للطبقات الفقيرة، وكان أبرز رمز لهم هو عبد الناصر، ومن انحاز للطبقة البورجوازية وأبرزهم أحمد حسن البكر وصدام حسين، وهما ذروة تمثيل الجناح اليميني مع تبنّي مؤسسي الجناح اليميني في البعث مثل ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار.
البعد الطبقي للصراعات بين القوميين
من هنا فإن الموقف من المجموعات الإثنية التي تعيش ضمن المجتمعات العربية اختلف وفقاً لمصالح الطبقات الاجتماعية التي مثلتها الحركات القومية على تباينها واختلافها.
من هنا فإن موقف البعثيين في سوريا من موضوع الأكراد كان محكوماً بمصالح الطبقة البورجوازية التي مثلها، خصوصاً البعث اليميني بقيادة صلاح الدين البيطار وميشال عفلق، والتي عارضت الإصلاح الزراعي الذي أقره جمال عبد النصر بصفته رئيساً لمصر وسوريا في إطار الوحدة.
هذا الموقف الطبقي انعكس موقفاً أيديولوجياً سلبياً من الأكراد. أما عبد الناصر، ومن منطلق الانحياز للطبقات الفقيرة فكان أول من منح الأكراد في سوريا، الذين أتوا كنازحين من تركيا، حقوقاً، فمنحهم الجنسية ومنحهم الأرض وفقاً للإصلاح الزراعي. وبتقديري، النسخة البورجوازية من المشروع القومي العربي هي التي كانت إلى حدٍ ما جامدة ودوغمائية في النظر إلى موضوع الأقليات، مثلاً موقف البعث من الأكراد من جنوب السودان ومن بعض المجموعات الأخرى، في حين أن الجماعات الناصرية كانت أكثر مرونة في استيعاب المسألة لأنها انطلقت من منطلق طبقي ومن منطلق الانحياز للطبقات الفقيرة.
والجدير ذكره أن مرحلة عبد الناصر في الحركة القومية العربية كانت مرحلة أساسية خصوصاً أنها استجابت لتحديات تلك المرحلة وأهمها التحرر الوطني، لذلك فإن عبد الناصر كان ينظر إلى القومية العربية على أنها وسيلة ومنصة للانطلاق نحو التحرر وليست غاية بحد ذاتها. وهذا يفسر بأن الكثير من قراراته كانت عرضة للنقد من البعثيين أو القوميين العرب وغيرهم من رموز حركة القومية العربية أو الجناح اليميني في هذا الإطار.
علاقة اليسار والقوميين بالإسلاميين
لا يشكل الإسلام بحد ذاته عائقاً أمام انتشار الفكر الماركسي، ولكن الإسلام السياسي كان منافساً لانتشار الفكر الماركسي والفكر القومي. فباستثناء الخطاب الإسلامي الذي طرحته إيران، فإن الإسلام السياسي الذي رعته المملكة العربية السعودية بدءا من أواخر الستينات من القرن الماضي، والإسلام السياسي الذي رعته تركيا في العالم العربي خلال العقدين الماضيين، كان مقدراً له أن يصطدم بالدرجة الاولى بالمنظمة العربية التي اعتمدت الخطاب القومي العربي. من هنا فإن التفاعل بين الحركات الإسلامية من جهة والحركات اليسارية والقومية من جهة أخرى، كان محكوماً بتناقض الأجندات السياسية للقوى الراعية للإسلاميين من جهة، والأنظمة القائمة في بعض الدول العربية من جهة اخرى.
من هنا فإن الحوار الإسلامي – القومي لم يكن مقدراً له أن يصل إلى نتيجة لأن المشكلة ليست في الحوار الأيديولوجي بل في المشروع الجيوسياسي. وفي هذا الإطار، المشكلة تتفاقم، لأن القوميين العرب أو الماركسيين العرب لا يمتلكون مشروعاً في هذا الإطار، وهذا يجعل الحوار بين التيار الإسلامي والتيار القومي والتيار الماركسي جدلاً بيزنطياً لا يصل إلى نتيجة.
خاتمة
في هذا الإطار، فإننا أمام مرحلة جديدة من الصراع مع المشروع الصهيوني الأميركي، والمشكلة الأساس ليست في السلام أو عدم السلام مع "إسرائيل" بل في كون "إسرائيل" هي أداة للهيمنة الكولونيالية والإمبريالية في منطقتنا، وبالتالي الصراع سيبقى قائماً ما دامت هناك إرادة تحرر في المنطقة العربية، وما دام هناك احتلال لهذه الإرادة من قبل الإمبريالية الغربية وأداتها "إسرائيل".
لكن المشكلة الأساس تكمن في غياب المشروع القومي أو اليساري، الذي يمكن أن يطرح تصوراً لكيفية المواجهة مع الإمبريالية الأميركية في المنطقة العربية.