يوم القدس في زمن الإبادة: حين تسقط الأقنعة وترتفع راية المقاومة

قيمة يوم القدس لم تقتصر على البعد الرمزي أو التعبوي، بل اتخذت أبعاداً استراتيجية مع تصاعد محور المقاومة وتنامي الوعي الجماهيري، وأصبحت هذه المناسبة فرصة لإعادة التموضع السياسي، وتجديد الخطاب التحرّري.

0:00
  • غزة والقدس والضفة في قلب الجحيم: حرب إبادة تحت مظلة الصمت الدولي.
    غزة والقدس والضفة في قلب الجحيم: حرب إبادة تحت مظلة الصمت الدولي.

في مشهد هو الأقرب إلى نهاية الإنسانية، حيث تُحوَّل الأحياء إلى ركام، وتُدفن العائلات تحت أنقاض منازلها، وتُقطع أوصال المدن بفعل صواريخ الحقد، يُطلّ علينا يوم القدس العالمي هذا العام، لا كحدث رمزي يُعاد كلّ عام، بل كصرخة ضمير في زمن الانحطاط الأخلاقي والسياسي، وكنقطة اشتباك مفتوحة بين قوى التحرّر، ومحور الهيمنة والاستعمار.

منذ أن أطلق الإمام الخميني نداءه التاريخي بجعل آخر جمعة من رمضان يوماً للقدس، كان الهدف أعمق من التضامن الموسمي. كان رؤية استراتيجية تُثبّت القدس في الوعي كقضية مركزية، وتمنحها معنى يتجاوز الجغرافيا لتغدو رمزاً للعدالة المسلوبة والكرامة المنتَهَكة والمقاومة المتجذّرة. واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، تتجلّى تلك الرؤية في أبهى صورها المأساوية؛ فالعدو نفسه، والأرض ذاتها، والمذابح أشد فتكاً من أيّ وقت مضى.

تُباد غزة على مدار الشهور، لا من قبل "جيش" نظامي فحسب، بل من تحالف عالمي يمدّ الاحتلال بالقنابل والدعم السياسي والتواطؤ الإعلامي. يُقتل الأطفال بدمٍ بارد، وتُستهدف المستشفيات والمدارس والمخيمات، وكأنّ الوجود الفلسطيني بأسره صار جريمة تستوجب الإبادة. وفي قلب هذا الجحيم، تواصل القدس نزفها، تُحاصر بأحزمة الاستيطان، ويُقتحم أقصاها كلّ يوم تحت حراب التطرّف، فيما يتعالى صوت اليمين الصهيوني مطالباً بهدمه وبناء "الهيكل" المزعوم على أنقاضه.

إنّ يوم القدس هذا العام لا يحتمل الحياد، ولا يصلح فيه الاكتفاء بالرمزية أو التمنيات. إنه لحظة فاصلة تُختبر فيها المواقف، وتسقط فيها الأقنعة، وتُرسم معالم الخندقين: خندق الأحرار المقاومين، وخندق المتواطئين المنهزمين. فالقدس اليوم لا تبحث عن شعراء، بل عن رجال ونساء يكتبون بدمهم معاني الكرامة، ويجعلون من هذا اليوم بوابة لمواجهة المشروع الصهيوأميركي بكلّ تجلّياته.

يوم القدس: من نداء ثوري إلى صرخة أمّة

في خضمّ التحوّلات الكبرى التي أعقبت انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أطلق الإمام الخميني نداءً سيظل محفوراً في ذاكرة الأحرار: "خصصوا آخر جمعة من رمضان كيوم عالمي للقدس". لم يكن النداء خطاباً دينياً محضاً، بل كان موقفاً ثورياً يتحدّى الصمت العربي، ويكسر قيود التجاهل الدولي، ويعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الوجدان الإسلامي والإنساني، بعد أن كادت تغرق في دوامات الهزيمة والتآمر والتطبيع.

تحوّل هذا اليوم منذئذٍ إلى محطة سنوية للتعبير عن الرفض الشعبي للكيان الصهيوني، وعن التمسّك بحقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيّما حقّه في العودة وتقرير المصير وتحرير القدس. وأصبحت المسيرات والفعّاليات التي تُنظَّم في إيران، ولبنان، والعراق، واليمن، وسوريا، والبحرين، وباكستان، وغيرها من الدول، تعبيراً صادقاً عن الالتحام مع فلسطين، ورفضاً لكلّ أشكال التطبيع والخضوع.

لكنّ قيمة يوم القدس لم تقتصر على البعد الرمزي أو التعبوي، بل اتخذت أبعاداً استراتيجية مع تصاعد محور المقاومة وتنامي الوعي الجماهيري، وأصبحت هذه المناسبة فرصة لإعادة التموضع السياسي، وتجديد الخطاب التحرري، ومواجهة مشاريع التصفية، سواء جاءت من بوابة "صفقة القرن" أو عبر مسارات "أبراهام" للتطبيع.

غزة والقدس والضفة في قلب الجحيم: حرب إبادة تحت مظلة الصمت الدولي

إذا كان يوم القدس قد وُلد في حضن الوعي الثوري، فإنّ حضوره اليوم يتجلى وسط نيران حربٍ مفتوحة تُشنّ على الشعب الفلسطيني من أقصاه إلى أقصاه. فما يجري منذ السابع من أكتوبر 2023، ليس مجرّد عدوان عسكري، بل حرب إبادة جماعية ممنهجة، تُدار بدمٍ بارد تحت عنوان "الردّ على المقاومة"، بينما هدفها الحقيقي هو كسر الإرادة الفلسطينية، وتفكيك البنية المجتمعية لغزة، وفرض وقائع ديموغرافية في القدس والضفة الغربية.

في غزة، تُقترف جرائم تفوق الوصف. قنابل أميركية تُمطر على رؤوس الأطفال، وأحياء تُمحى من الوجود، وعائلات تُدفن تحت الأنقاض. تُستهدف المستشفيات والمدارس، ويُجبر أكثر من مليون فلسطيني على النزوح. أما في القدس، فالمسجد الأقصى يُداس بأقدام المستوطنين، واليمين الصهيوني يجاهر بنيّته تهويد المدينة بالكامل. وفي الضفة الغربية، تتوالى الاعتقالات، وتتسارع وتيرة الاستيطان، وتُرتكب الإعدامات الميدانية بلا حسيب ولا رقيب.

القدس والمقاومة: من الرمز إلى الاستراتيجية

ليست القدس مجرّد مدينة مقدّسة، بل هي بوصلة الصراع الوجودي بين مشروع الهيمنة الصهيوأميركي، وحركات التحرّر. إنّ استهداف القدس لا يُفهم خارج هذا السياق العميق، لأنها لم تكن يوماً حيّزاً جغرافياً فحسب، بل هي الرمز الأوضح للصراع بين الاستعمار والتحرّر، بين الظلم والمقاومة.

منذ عقود، شكّلت القدس محوراً في خطاب المقاومة، لكن في السنوات الأخيرة أصبحت هدفاً استراتيجياً، كما ظهر في "سيف القدس" و"طوفان الأقصى". وقد أثبتت أنها القادرة على توحيد الجبهات من البحر إلى النهر، ومن شوارع المغرب إلى أزقة صنعاء. فهي المفتاح الروحي والسياسي لوحدة الأمة، والوقود الحقيقي لمقاومة لا تساوم ولا تنكسر.

سقوط الأقنعة: حين يصمت العالم ويتواطأ الأشقاء

يوم القدس لهذا العام يكشف بجلاء سقوط الأقنعة. فالغرب — الذي يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان — انكشف شريكاً في جريمة الإبادة. والولايات المتحدة تقود المعركة عبر حاملات الطائرات والدعم السياسي، فيما أوروبا تصطف بصمتها وتواطئها خلف آلة القتل.

أما بعض الأنظمة العربية، فاختارت الاصطفاف في خانة العجز، وربما ما هو أسوأ من العجز: خانة التواطؤ. تستقبل الوفود الصهيونية، وتمنع التظاهرات، وتغلق فضاءها الإعلامي أمام صوت المقاومة، وكأنها تفضّل بقاء الاحتلال على انتصار فلسطين.

في يوم القدس: لا حياد مع الدم.. لا قدس بلا مقاومة

إنّ يوم القدس ليس دعوة للتأمّل، بل دعوة للفعل والانخراط والانحياز الصريح. القدس تُنتهك، وغزة تُباد، والضفة تُجتثّ، وأيّ حديث عن التوازن والتهدئة والمفاوضات هو ترفٌ أخلاقي لا يليق بالمرحلة.

اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، تفرض المقاومة نفسها خياراً لا غنى عنه، ليس فقط لتحرير الأرض، بل لحماية الوجود الفلسطيني من الزوال. لقد أثبتت أنّ العدو لا يفهم سوى لغة الردع، وأنّ الصمت لا يُكسر إلا بصوت البنادق. ومع المقاومة، لا بدّ من وحدة سياسية وجماهيرية تعيد للقضية الفلسطينية زخمها ومكانتها في ضمير الأمة.

من القدس تبدأ المعركة.. وإليها تعود الكرامة

إنه يوم القدس، لكنه ليس يوماً كباقي الأيام، ولا مناسبة عابرة في رزنامة النضال. إنه هذا العام صرخة في وجه الصمت، وصفعة في وجه الخيانة، واستدعاء لكلّ ما تبقّى فينا من نبض وكرامة. من لا يرى في القدس اليوم عنواناً لمعركتنا الكبرى، فهو إمّا أعمى البصيرة، أو شريك في الجريمة.

القدس اليوم ليست وحدها. معها غزة تقاوم بالحجر والدم، والضفة تشتبك بالعزيمة، والشعوب الحرة تهتف في الشوارع، ومحور المقاومة يمدّ يده من جبال صعدة حتى ضاحية بيروت، ومن بغداد إلى دمشق وطهران، ليقول: "لسنا دعاة حرب، لكننا لا نقبل الإذلال، ولا نساوم على القدس".

في هذا اليوم، لا نكتب فقط عن القدس، بل نبايعها من جديد، ونعاهد شهداءها، وأطفال غزة المحترقين تحت الأنقاض، أن هذه الأرض لن تُنسى، وأن هذا العدو لن يُفلت من الحساب. وإن سكت العالم، فلن نسكت. وإن تواطأ الحكّام، فالشعوب ستقول كلمتها.

القدس ليست نداءً في آخر رمضان، بل بوابة تحرير، وراية أمة، ومحرار حياة أو موت.

ومن القدس تبدأ المعركة، وإليها تعود الكرامة... شاء من شاء، وأبى من أبى.