الخلق الإلهي.. رؤية في كتاب "Self - Made Man"
الخلاصة التي تصل إليها فينسنت هي أنّ الاختلاف الإلهي ليس عقبة أمام المساواة، بل شرط لها. فكما أنّ التنوّع البيولوجي ضروري لبقاء النظام البيئي، فإنّ التنوّع الجندري ضروري لإثراء الإنسانية.
-
نورا فنسنت عام 2001 في مانهاتن (نيويورك تايمز)
قبل أكثر من عقدين، قرّرت الكاتبة الأميركية، نورا فينسنت (1968 – 2022)، أن تخوض تجربة غير مسبوقة. حيث عاشت 18 شهراً متنكّرة في هيئة رجل أسمته "نيد"، لتفكّك الأسطورة الاجتماعية للذكورة. لم تكن مغامرتها مجرّد اختبار لتمويه الجسد، بل كانت رحلة عميقة إلى قلب السؤال الأبدي: لماذا خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى؟ وهل الاختلاف البيولوجي قدر إلهي لاستمرار الحياة، أم سجن صنعناه بأيدينا؟
في كتابها "Self - Made Man" (الرجل العصامي) والصادر عام 2006، تصف نورا كيف أن المجتمع يعامل الرجل ككائن منفصل عن المرأة، ليس بسبب "طبيعته"، بل بسبب قواعد صمّمها البشر أنفسهم. في العمل، اضطرت لتبنّي لهجة عدوانية لكي تحترم. في المواعدة، اكتشفت أن النساء ينتظرن منها – كرجل – أن تتحمّل مسؤولية الإعجاب والرفض. حتى في جلسات العلاج النفسي مع الرجال، لاحظت كم هم محاصرون بوصمة "الرجولة" التي تمنعهم من البكاء. التجربة كادت تدمّر صحتها العقلية، لكنها كشفت لها أمراً مهماً: الاختلاف البيولوجي بين الجنسين ليس مشكلةً في ذاته، بل تحويله إلى أداة للقمع هو الجريمة.
هنا تلتقي تجربة فينسنت مع الجوهر الروحي للأديان. فالقرآن الكريم يصف الخلق بأنه ثنائية تكاملية: ﴿ومن آياته أن خلق لكم مّن أنفسكم أزواجًا لّتسكنوا إليها﴾ (الروم: 21). النص لا يتحدّث عن تفوّق أحد الجنسين، بل عن سكن متبادل. وكذلك اليهودية التي ركّزت على دور حواء كـ"معينة" لآدم، والمسيحية التي تؤكد في الإنجيل أن المسيح جمع الذكر والأنثى في قيمة واحدة: "ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح" (غلاطية 3: 28). في المصادر الإسلامية الشيعية، ينقل عن الإمام جعفر الصادق قوله: "المرأة ريحانة وليست قهرمانة" (الكافي)، كناية عن أنّ الاختلاف الجسدي لا يبرّر الاستعباد.
هذه النصوص تشير إلى أن الأديان - في أصلها - لم تشرّع التمايز إلا لضمان التوازن، لكنّ البشر حوّلوه إلى سلاح.
عندما تلبّست فينسنت جسد رجل، لم تجد فروقاً جوهرية في "الطبيعة الإنسانية" بين الجنسين، بل نظاماً اجتماعياً يفرض على الرجل أن يكون صخرة غير قابلة للكسر، وعلى المرأة أن تكون زهرة غير قادرة على الصمود.
هذا النظام يتناقض مع الروحانية المسيحية التي تقدّس ضعف الإنسان: فالمسيح بكى (يوحنا 11: 35)، ودعا إلى محبة الأعداء، بينما يمنع الرجل في المجتمعات المادية من إظهار أيّ تعاطف.
حتى في الإسلام، يروى أن النبي محمد - وهو رمز الرجولة - بكى عند وفاة ابنه إبراهيم، وقال: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا". المشاعر الإنسانية، إذاً، ليست حكراً على جنس، لكن المجتمع يصرّ على تجزئتها.
التناقض الأعمق يكمن في أن الأديان – رغم إقرارها بالاختلاف – تدعو إلى العدالة. القرآن الكريم يفرض للنساء حقوقاً ماليةً مستقلة ﴿لّلرّجال نصيب مّمّا اكتسبوا وللنّساء نصيب مّمّا اكتسبن﴾ [النساء: 32]، والإنجيل يرفض الطلاق إلا لعلة الزنا (متى 19: 9)، لكنّ الواقع الذي عاشته فينسنت كـ"نيد" كان مختلفاً: الرجال في العمل يتنافسون بشراسة كي يثبتوا تفوّقهم المادي، والنساء في المواعدة ينتظرن الرجل "المنقذ". النظام الأبوي، كما تراه فينسنت، خيانة للدين وللفطرة.
في المصادر الشيعية، وعن السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب، التي وقفت في وجه الطغيان بعد استشهاد أخيها الحسين، لم تكن "أنثى" ضعيفة، بل كانت خطيبة ثائرة أعادت تعريف دور المرأة في المقاومة. هذه القصة – كتجربة فينسنت – تثبت أن الأدوار الاجتماعية قابلة للتغيير، شرط أن نوقف تحويل "الاختلاف" إلى "تقييد". حتى في المسيحية، نجد القديسة تريزا الأفيلية، التي تحدت الصورة النمطية للراهبة الخانعة، وأسست نظاماً روحياً قائماً على الإصلاح الجريء.
-
كتاب "Self - Made Man" (الرجل العصامي) الصادر عام 2006
لكن كيف نوفّق بين هذا الفهم التحرّري للاختلاف وبين النصوص الدينية التي تبدو – للوهلة الأولى – مجحفةً بحق المرأة؟ الجواب يكمن في السياق التاريخي. عندما قال المسيح: "أيتها المرأة، إن إيمانك عظيم!" (متى 15: 28)، كان يخاطب امرأةً وثنيةً في مجتمع ذكوري، معيداً لها كرامتها. وعندما فرض الإسلام الميراث للذكر ضعف الأنثى (النساء: 11)، كان ذلك في سياق كانت المرأة فيه تورث كمتاع. النصوص – حين تقرأ بوعي – تحمل بذور التطوّر، لكنّ البشر يجمّدونها عند لحظة تاريخية واحدة.
هذا ما فعلته نورا فينسنت التي انتحرت بعد تلك التجربة بــ 19 عاماً، من دون قصد: لقد كسرت التجميد عندما عاشت كرجل، لم ترفض أنوثتها، بل وسّعت تعريف الإنسانية. هي لم تكن "رجلاً ناقصاً"، بل كائناً حراً اختبر كلا العالمين. هذا التحرّر هو ما تدعو إليه الأديان في صميمها. ففي "نهج البلاغة"، يقول الإمام علي: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق". الكرامة الإنسانية، وفق هذا المنطق، لا تقاس بجنس أو دور، بل بالتقوى: ﴿إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم﴾ (الحجرات:13).
لكن الواقع المعاصر - كما رأته فينسنت - يُفرغ هذه المبادئ من مضمونها. الرجل الذي التقت به في نوادي "البولينغ" كان يضحك على نكات جنسية مهينة، ليس لأنه "شرير"، بل لأنه يخشى أن ينبذ إن لم يقلها. المرأة التي رفضت مواعدتها لأنها لم تكن "قوية بما يكفي" كانت ضحية الخوف نفسه. النظام الأبوي، في النهاية، ليس مؤامرةً ذكورية، بل حلقة مفرغة من التوقّعات الموروثة.
هنا يبرز السؤال المركزي: إذا كان الاختلاف البيولوجي ضرورة إلهية لاستمرار الحياة كما في قوله تعالى: ﴿واللّه جعل لكم مّن أنفسكم أزواجًا﴾ [النحل: 72]، فلماذا نعيش كما لو كان نقمة؟ الجواب قد تجده في قصة الخلق نفسها. ففي سفر التكوين، خلقت حواء من ضلع آدم، لا لتصنع منها "تابعة"، بل ليكتمل بها. وفي القرآن، خلق الإنسان من نفس واحدة: ﴿خلقكم مّن نّفس واحدة﴾ (الأعراف: 189). حتى في علم الأحياء، لا يمكن للذكر أن يوجد من دون أنثى، والعكس صحيح. الفصل بينهما هو تشويه لإرادة الخالق.
أما التجربة الأكثر إيلاماً لفينسينت فكانت في مجموعات الدعم الذكورية، حيث اعترف الرجال بأحقادهم تجاه النساء، ليس لأنهم يكرهونهن، بل لأن النظام الأبوي جعلهم يربطون حبهم بالقوة. هذا الانفصام النفسي يتناقض مع الإنجيل الذي يوصي: "أيّها الرّجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة" (أفسس 5: 25). الحب هنا ليس هيمنة، بل تضحية.
ختاماً، تكشف تجربة Self-Made Man أن المشكلة ليست في الاختلاف البيولوجي، بل في رفضنا لفهم الغاية منه. الأديان – من الإسلام إلى المسيحية – تؤكد أن الذكر والأنثى خلقا ليكملا بعضهما، لا ليتصارعا. القرآن يصف الزواج بالسكن (الروم: 21)، والإنجيل بالجسد الواحد (مرقس 10: 8)، لكن البشر حوّلوا هذا السكن إلى ساحة حرب.
الخلاصة التي تصل إليها فينسنت – والمفارقة التي تلمّح إليها النصوص المقدّسة – هي أن الاختلاف الإلهي ليس عقبة أمام المساواة، بل شرط لها. فكما أنّ التنوّع البيولوجي ضروري لبقاء النظام البيئي، فإنّ التنوّع الجندري ضروري لإثراء الإنسانية. التحدّي الحقيقي هو أن نوقف تحويل "الذكر والأنثى" إلى عملة للمقايضة، وأن نعيد تعريفهما كوجهين لعملة واحدة اسمها الإنسان.
عندما خلعت نورا فينسنت قناع "نيد"، كتبت: "أدركت أنني لو ولدت رجلاً، لكنت سجيناً مثله". ربما لو قرأنا النصوص الدينية بعيون منفتحة، لعرفنا أن الله لم يخلق الرجل والمرأة ليكونا سجّانين، بل ليكونا شاهدين على جمال التنوّع. فهل نستحقّ أن نكون خلفاء لهذا الجمال؟