السيد حسن نصر الله.. عبقرية الرمز
الكتابة عن السيد نصر الله ليست مجاملة، بل هي فعل مقاومة رمزية، تعيد الاعتبار للحق، وتعيد ترتيب الأولويات، وهي أيضاً فعل توثيق، ينقذ الذاكرة من النسيان، ويحصنها ضد التزييف.
الكتابة عن الشهيد السيد، حسن نصر الله، ذكراه الأولى شكل من أشكال الانتماء والمقاومة والهوية التي نحملها رغم الآلام. نؤمن بأن كل الذين يحملون صليباً يجب أن يتحملوا آلام مساميره في طريق الجلجلة. وهذا دأب لبنان منذ استشهاد الزعيم أنطون سعادة وحتى ارتقاء سيد الشهداء حسن نصر الله.
التاريخ يفسر إلى حد كبير بتأثير "الرجال العظماء" أو الأبطال، وهم أفراد مؤثرون للغاية تمتعوا بتأثير تاريخي حاسم بسبب صفاتهم الطبيعية مثل، الذكاء الحاد، والشجاعة البطولية، ومهارات القيادة الاستثنائية، أو إلهامهم المقدس وأخيراً الاستشهاد.
يقول الفيلسوف والكاتب الإسكتلندي، توماس كارلايل: إن "تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء"، مما يعكس اعتقاده بأن الأبطال شكلوا التاريخ من خلال سماتهم الشخصية والإلهام الإلهي.
إن إحياء ذكرى الاستشهاد الأولى وتذكر شهيده/الأول، هي عملية بحث في كيفية ارتباط الشعوب المتنوعة بالرمز في زمن البطولات التي سطرها شهداء مقاومة العدوان والعملاء، من خلال ارتباط الذكريات الجماعية اليومية، في أماكن مختلفة من أرض لبنان.
أي نقاش حول العلاقة المتبادلة بين "الرمز" و"الشهادة" و"الذاكرة" و"الهوية"، سيقودنا بالضرورة للتفكير الجدي في تنظيم مشروع وطني طموح يظهر الحالات الثلاث "البيئة والذاكرة والهوية"، مقترنةً بالاهتمامات لـ"صنع المعنى"، وإعادة "صنع الهوية"، لأنهما على المحك، ويتطلبان إعادة صياغة "الذاكرة" وبناء "الإنسان/ المجتمع" في وقت واحد.
لقد أثبت مفهوم استشهاد/الرمز فائدة في إقامة الروابط بين فئات المجتمع اللبناني المتنوع، وقد جرى توسيعها لاحقاً لتشمل الجوانب الأسطورية للأشياء المتعلقة بالتجربة الإنسانية للسيد نصر الله، تلك التي جلبت وعي المصممين إلى الحاجة إلى التناغم مع الجوهر الأساس لثقافة الاستشهاد.
فلسفة الاستشهاد لا تدين المتقاعسين والمتخاذلين الذين شرعنوا للرضوخ والاستسلام فقط، بل تفكيك خطابهم أيضاً. وهذه الذكرى الأولى، في نهاية المطاف، لا تحتاج إلى منافسة في الوفاء، بل إلى تعدد في السرديات الوطنية، يغنيها ولا يقسمها، ويعيد تشكيلها كقضية جامعة، لا كأداة لتسجيل النقاط الرمزية. والسيد نصر الله لا يحتاج إلى من يزايد باسمه، بل إلى من ينصت لصوته، ويعيد سرد حكايته بصدق، ويدافع عن مواقفه من دون أن يطالب بثمن أو اعتراف. إن قضيته تعلمنا أن التضامن الحقيقي لا يطلب، بل يمنح، وأن الوفاء لا يقاس بالشعارات، بل بالمواقف.
هدير جماهير المقاومة يوم "الروشة" لم تكن تمريناً في الحياد البارد، ولا في الانحياز العاطفي المطلق، بل هي مسؤولية معرفية وأخلاقية مزدوجة للناس تجاه رمزهم. فالشهيد لم يستشهد من خارج الحدث اللبناني/الفلسطيني، بل من داخله، وهذا ما يؤكد أن مهمته كانت أكثر تعقيداً مما نتصور.
على اللبناني والعربي أن ينصف من وقف في وجه العدوان، من دون أن يجامل، وأن ينتقد من خذل السيد نصر الله وطأطأ رأسه أمام السفارات، وأن يدين بالجملة الأصوات التي تسعى لبيع الأوطان.
الكتابة عن السيد نصر الله ليست مجاملة، بل هي فعل مقاومة رمزية، تعيد الاعتبار للحق، وتعيد ترتيب الأولويات، وهي أيضاً فعل توثيق، ينقذ الذاكرة من النسيان، ويحصنها ضد التزييف، لذلك فإن مهمة المثقف اليوم حين يكتب، لا يكتب فقط عن الشهيد، بل عن الإنسان، عن المعنى، عن العدالة، وعن الأمل الذي لا يموت.
أن يدافع عن المثقف/الشهيد والفيلسوف/الشهيد، ندرك بأن مهمة الفيلسوف ليست اعطاء أجوبة، بل إنتاج مفاهيم كما يؤكد الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي، جيل دولوز.
إن إدراك قيمة الشهادة وإيفائها استحقاقاتها بقدر ما هي وفاء للشهداء فإنها درس مهم للمجتمع يعزز من استعداده للتضحية، فالتحديات والاطماع بهذا الوطن لم تنته ولن تنتهي، هكذا يقول الواقع الراهن حيث تزداد همجية الأعداء ووقاحة العملاء الذين مدوا مخالبهم في وضح النهار وتحت مرأى من ادعوا القيادة، فيما لا يزال لبنان يعيش على وقع الاعتداءات الإسرائيلية اليومية منذ عام.
هذا العدو غبي جداً، وهو يسير أعمى، يقوم على عكازين من خشب، واحدة تسمى الغرور والغطرسة والثانية تسمى جنون الأسلحة الفتاكة، ستأكل النار هذا العكاز الخشبي المتآكل سنة بعد أخرى، وعلى أيدي هؤلاء الأبطال وأجيالهم. هذه حرب لن تنسى أبداً، إنها "هولوكوست" الفلسطيني واللبناني والسوري واليمني على أيدي التلموديين.
جيل المقاومة الذي آمن بالقائد/الرمز قادر على اقتناص اللحظة ليحولها إلى أغنية تكتسح منصات التواصل الاجتماعي، وها هو يؤكد أنه جيل عبقري عصي على الانكسار أو الانحدار أو التململ.
إن هذا ليس كلاماً إنشائياً رومانسياً نعزي فيه أنفسنا عن مرارة الفقد في لبنان وغزة، بل إنها حقيقة معيشة كل يوم نراها تولد أمامنا على الشاشات، إنها لحظات يؤطرها القدر لتكون علامة وجودية وسط موج متلاطم من الموت العشوائي، جوعاً وقتلاً.
تأتي الذكرى وسط انقسام داخلي في لبنان (كما في فلسطين)، ما يستدعي إعادة فتح نقاش جاد وموضوعي حول مسألة المقاومة والسلاح، خصوصاً في ضوء الظروف الراهنة من متغيرات في البيئة الخارجية العربية، حيث يتقدم فيها التطبيع ويتأثر بها بعض الداخل اللبناني وقد تواطأ سياسيون ومثقفون لبنانيون مع سرديات العدو والتزموا الصمت على المذبحة/الإبادة في غزة، أو تحدثوا بتردد وخجل، وبعضهم صمت لأنه مستفيد من المال السياسي العربي.
في الختام نقول: لا يبدأ الاستشهاد من الشجاعة على رغم أنه لا يكون إلا بها. ولا ينتهي فقط إلى البطولة على رغم أنه لا يكون إلا بممارستها.
بين الشجاعة والبطولة قرابة الوعي، وبين الشجاعة والوعي قرابة الثقافة، وبين الثقافة والوعي قرابة العقيدة.
الشهادة إذاً بطولة واعية، وإيمان بقضية تخفق في وجدان المرء ليصير في لحظات الوجد طاهراً شفافاً نفاذاً كالضوء.
الشجاعة من دون البطولة تهور مجاني، ولا بطولة من دون شجاعة. والشهادة الشجاعة البطلة هي إحساس بقيمة الذات وأهميتها في المجتمع، وإحساس بالمجتمع… قيماً ومناقب ومصالح حياة أفضل.