بعد قرار كلية الفنون... أسئلة حول الفن والحرية والأخلاق في سوريا
جدل حول مستقبل الحرية في الفن بجامعات دمشق بعد قرار كلية الفنون الجميلة الأخير. ما هو القرار، وكيف يراه فنانون سوريون؟
قبل أيام، أصدرت كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق قراراً تدعو فيه المعنيين إلى "المتابعة والإشراف على أعمال التخرج بما يتماهى مع ثوابتنا الأخلاقية والمجتمعية وعدم السماح بتشكيل أعمال تتعلق بالموديل العاري في أعمال النحت والتصوير والحفر"، تحت طائلة منح علامة الصفر للطالب المخالف.
هذا القرار رأى فيه كثيرون "انتهاكاً صريحاً للحرية الأكاديمية، ومساساً باستقلال المناهج وتشويهاً لبنية العملية التعليمية ذاتها"، وهو ما عبّر عنه البيان الصادر عن الحراك الطلابي.
قرار الكلية فتح الباب على مصراعيه لأسئلة من نوع: هل يستطيع الفنان أن يبدع من دون حرية؟ وما هي حدود تلك الحرية التي تضمن للفنان أن يبقى وفياً لمنجزه ورؤيته الخلاقة؟ وكيف يمكن للفنان العارف أن يتخلص من الآثار السلبية لتقييد حريته؟ إضافة إلى تساؤلات تتعلق بمفهوم الالتزام في الفن، وهل يتعارض ذاك الالتزام مع الحرية أم العكس؟ وكيف يمكن أن تستوي العلاقة بين الفن والأخلاق مع الإبقاء على مستوى عالٍ من الحرية؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحناها في هذا التحقيق على فنانين تشكيليين سوريين لاستعراض رؤاهما ومعتقداتهما حول العلاقة بين الفن والحرية.
هدم الكرامات
-
الفنان التشكيلي عدنان حميدة
في حديثه مع "الميادين الثقافية" أوضح الفنان، عدنان حميدة، أن هناك مستويات لحدود الحرية في الفن، وهي حرية صدق الفنان مع ذاته والوفاء لمخيلته، واتباع ما يهمس قلبه به، من دون الإصغاء لوساوس ضغوط السوق وتوقعات هل يعجبهم هذا الفن أم لا. الحرية هنا تحمي الفنان من الخروج عن ذاته.
ويضيف: "لكن، تبقى هناك مسؤولية الفنان تجاه محيطه أو مجتمعه، لأن الفن في النهاية يتوجه إلى الناس، وهنا نقف أمام إشكالية المحلي والعالمي، فأنت كفنان يجب أن تكون عالمياً مع الحفاظ على هويتك المحلية، من دون الانزلاق بصورة بصرية تهدم كرامة أحد، فهذا قد يبرر الكراهية بين فئات المجتمع أو بين الدول، لذلك على الحرية أن تبقى مقيَّدة بالوعي حفاظاً على مشاعر مجتمع الفنان وأيضاً مشاعر المختلف معه، لأن للفن قوة تأثير لا يمكن تحديد ردة فعل الآخر عليها إن نلت منه بفنك".
ويرى حميدة أن "الحرية الفنية المطلقة قد تصدم بالقوانين والأعراف والتقاليد التي تشكل حاجزاً واقعياً لا مفر منه أمام الفنان، وهذا الحاجز هو جدار يختلف بحسب المكان والزمان، وقد قرأنا في تاريخ الفن تسلط الفنان ديفيد في مرحلة الكلاسيكية المحدثة، وعايشنا الاتحاد السوفياتي الذي "ألزم" الفنانين التشكيليين برؤية ثورته آنذاك، والمَخْرَج هو أن يراوغ الفنان بذكاء بالرمز والتجريب والاختراع الذي يجنبه سطوة الانتقاد، وهنا لا بد من أن أقول حتى لا يفهمني البعض فهماً سيئاً إن الحرية أن تضمن الوفاء للمنجز بتوازن بين الصدق والمسؤولية الإنسانية والوعي".
الترميز الإبداعي
-
نسخة من القرار الصادر عن كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق
ويوضح التشكيلي الفلسطيني - السوري أن الفنان سيبدع في حال تعرض لقيود اجتماعية لأنه لن يكون مباشراً في طرحه، إذ سيلجأ إلى التحوير والتشفير والرموز وهي أكثر إبداعاً من المباشرة. هنا، سيبحث عن ذاته واختراعاته لكينونات أكثر عمقاً ويمنح أعماله مستوى لمشاهدة بصرية خاصة به يمكن أن تقبلها فئات اجتماعياً أو سياسياً، ولكن أعتقد في هذه الحالة سيكون جمهوره نخبوياً كي يتذوق فنه، ومثقفاً عارفاً ليفهمه.
ويمكن للفنان، كما حدث في الدراما المحلية، أن يستدعي من التاريخ الموروث أو العالمي ليسقطه على واقع لا يستطيع البوح به، كما رأينا في المسرح السوري لعقود.
وليس علينا أن ننسى أن التقانات والألوان لها دلالتها ورمزيتها والمواربة بالفراغ المحيط، وهذا يفتح أمام المتلقي أفقاً للتأويل الواسع بعيداً عن المباشرة.
وفي ما يتعلق بمفهوم الالتزام يقول حميدة: "هناك التزامان. فإن فهم الالتزام على أنه إلزام فإنه يحدّ من حرية الفنان لا بل يحوّله إلى صانع يأخذ أجره بحسب الطلب، وهذا مرفوض عندي جملةً وتفصيلاً. أما حين يصبح الالتزام اختياراً حراً لقضية ما أو فكر معين آمن به الفنان واشتغل عليه بحب وقناعة، فهذه حريته التي ألتزم بها حباً وليس كرهاً".
علاقة إشكالية
-
بيان الحراك الطلابي رداً على قرار كلية الفنون الجميلة
أما العلاقة بين الحرية الفنية والأخلاق فيعدّها حميدة إشكالية، لا سيما في ظل تفاوت مفهوم الأخلاق بين المجتمعات على هذا الكوكب، ويقول: "هناك أخلاق اجتمعت عليها الأمم وكسرت معظمها العولمة، وأظن أنها ستتراجع عنها شيئاً فشيئاً، وبدأ التراجع من أميركا والكل يعلم ذلك. هناك دعوات للعودة إلى ما تصالحت عليه المجتمعات من أخلاق وقيم، وحرية الفنان لا تهدم الأخلاق بل تساعد حريته على كشف الزائف وإحياء الصدق والإنسانية. والفن كرسالة هو مسؤولية لا فوضى وليس هناك تناقض بين الحرية الفنية والأخلاق، الموضوعات ذات الحساسية العالية يجب أن ترتقي من الابتذال إلى الصدق والمساءلة الفكرية والروحية. العلاقة بين الفن والأخلاق علاقة توازن فالحرية تمنح الفن صدقه والأخلاق تمنحه مسؤوليته".
من جانبه، يعتقد الفنان السوري، بطرس المعري، أن "كل فرد في البلاد العربية يُخلق وهناك شرطيان بداخل رأسه يتحكمان بحياته من خلال رجل الدين ورجل السياسة، فهما من يصيغان له حدود الحرية، وكلما زادت سطوة هذا الشرطي أو ذاك، ضاقت الحرية لدى هذا الفرد".
ويضيف في مقابلة مع "الميادين الثقافية": "يترك لك الحاكم السياسي هامشاً لتلعب فيه، الخط الأحمر فيه غالباً هو الاقتراب من عرشه أو كرسيه… بينما يتدخل الوازع الديني أو "الحاكم الديني"، إن جاز لنا التعبير، في شؤونك الدنيوية والدينية ويحدّ من حريتك بما يوحيه من عقابات دينية أو دنيوية أو حتى سماوية. تلعب هنا العائلة والمحيط الاجتماعي، (وبالطبع من مؤسسات تعليمية ودور عبادة)، دوراً في توسيع حرية الفرد منها والتشجيع على التمرد على تلك الحدود. إن هذا منوط بالطبع بمستوى تحصيل أبنائها العلمي وبثقافتها، بتقبّلها مناقشة الأمور الحياتية من ناحية نقدية، بتقبّلها الآخر المختلف، وهذا على ما أعتقد نادر لدينا".
حدود الحب
-
الفنان السوري بطرس المعري
ويتابع المعري: "الحرية برأيي تخضع حدودها إن كان لها حدود، للحب وللمنطق السليم وللضمير الحي، لا للغيبيات ولا لما يرسمه الحاكم لنا. فما نزرعه إذاً في عقل الفرد صغيراً وينشأ عليه، سيستمر معه طيلة حياته في غالب الأحيان، لذلك ترى أن المتمردين قلائل، فالخوف مزروع فينا منذ الصغر.
الحرية تعني أيضاً أن يستطيع الفنان إيصال رسالته من دون التفكير حتى بقوانين السوق، وهنا، بدلاً من أن نتكلم عن الحرية في الفن، لنتكلم عن الصدق في عملية الإبداع، فغير قضية "السوق" هذه، يعتقد الفنان أحياناً أن التمرد على القوالب الجامدة للمجتمعات ولتقاليدها هو الحرية، بغض النظر عن أهمية أو أصالة ما يقدمه من أعمال".
ويؤكد الفنان السوري أنه ينبغي التساؤل أيضاً: هل يستطيع الفنان أن يخرج من القوالب التي درسها في الكلية أو المتعارف عليها في المجتمع الخاص به؟ هل يستطيع كسرها ويصنع فناً جديداً وخارجاً عن المألوف؟ هل لديه إمكانية الإبداع والتفكير خارج الصندوق؟
قرار سياسي
-
المعري: في كثير من الأحيان نقول عن هذا الفن إنه منحط أو لا أخلاقي لأننا ننظر إلى الموضوع لكننا ننسى أن نتحدث عن القيمة الموجودة في هذا الفن
وفي ما يتعلق بقرار كلية الفنون الجميلة يقول المعري: "إنه ليس قرار العميد الدكتور فؤاد دحدوح أو قرار الكلية بل هو على الأرجح قرار سياسي ذو خلفية دينية محافظة كما يؤكد القرار: "ما يتماهى مع ثوابتنا الأخلاقية والمجتمعية"، وهو التوجه الواضح في الفضاء السوري العام حالياً. أما إحالة القصة إلى رغبة أهالي بعض الطلاب، فيرى أنه إن كانت كلية الفنون الجميلة لا تناسب توجه الطالب العائلي فعليه أن يفكر بكلية أخرى، وأقترح هنا إنشاء كلية فنون أخرى تُعنى بكل فن بعيد عن التشخيص".
والسؤال التالي والأهم هنا هو: ماذا بعد هذا القرار من قرارات؟ هل ستبقى حدوده هي مشاريع التخرج أم سينسحب هذا شيئاً فشيئاً على مشاريع الطلبة وحصص الرسم؟
يجيب المعري: "لدينا من أساتذة الكلية من يتحاشى التشخيص من مبدأ ديني، لا من خيار في الأسلوب أو في طريقة التعبير ومن هو أيضاً ضد وجود المنحوتات في فضاء هذه الكلية… ويمكن أن نقول إن هذا شأنهم وهذا خيارهم ما دمنا نتكلم عن الحرية، لكن المشكلة التي يمكن أن نواجهها مستقبلاً هي تدريس رسم جسم الإنسان ونحن هنا نطالب بعودة الموديل العاري والقصة لا علاقة لها بالأخلاق أو بالالتزام الديني ولا بالعيب أو العفة، بل ثمة شيء له علاقة بالعلم. إذ لا نستطيع أن نعلم الطالب أن يرسم إنساناً من دون أن يرى ويعرف كيف تتشكل نسب جسده وتشريح هذا الجسد. وهذا هو أساس أو ألف باء الرسم الصحيح. فهدف وواجب أي مؤسسة أكاديمية هو تعليم الطالب العلم الصحيح والمثالي في مجالها، ومجالنا هنا هو الفنون الجميلة كما هي معروفة في كل أنحاء العالم… إلا إذا كنا الاستثناء".
ويتابع: "أعتقد أن الملتزم هو الصادق بفنه والجدي بطرح منتجه. الالتزام قد يقيد حرية الفنان في اختيار المواضيع حينما يصبح أسير أيديولوجيا ما، أو يصبح فنه في خدمتها، لا في خدمة الفن لذاته. وبرأيي، ليس هناك رابط بين الحرية الفنية والانحلال الأخلاقي، فالمجتمعات عندما تنحل أخلاقياً يكون هذا الانحلال بسبب أفكار القائمين عليها أو المؤثرين فيها، وآخرهم الفنان التشكيلي… وهنا تُطرح تساؤلات: ما أهمية الفن التشكيلي لدى عامة الشعب؟ من يتابعه؟ ما أهمية الفنان ومنتجه لدى مجتمعنا؟ تكاد تكون معدومة. للأسف، في بلادنا الانحلال الأخلاقي يرتبط فقط بالعلاقات بين الجنسين، أو بالعري، ويا ليت هذا هو سبب الانحلال الأخلاقي الوحيد، لكنا بألف خير. في كثير من الأحيان نقول عن هذا الفن إنه منحط أو لا أخلاقي، لأننا ننظر إلى الموضوع، لكننا ننسى أن نتحدث عن القيمة الموجودة في هذا الفن، وهل هو مبتذل وركيك أم متين وحاضر وله وجود ويستطيع إدهاشك. القصة على ما أعتقد في كيف نرسم لا ماذا نرسم".