تُستعاد اليوم.. "حنظلة": نقطة ماء على جبين ناجي العلي
شخصية مفهومية باتت تستعاد دائماً وآخرها للاحتجاج على المجاعة والإبادة في غزة. لماذا وكيف تحوّل "حنظلة" إلى ما يشبه "الحقّ العامّ"؟
كانت آخر استعادة لحنظلة، كاسم وشخصية، قبل مدة قصيرة. إذ حملت السفينة التي كانت متوجهة لفك الحصار عن غزة اسمه، وهي سفينة صيد نرويجية صنعت عام 1968. أي قبل عام واحد من ولادة "حنظلة" على يد ناجي العلي.
أما سنة 1969 فكانت الفاصلة في مسيرة العلي والفلسطينيين والعالم، وهي المرة الأولى التي يخترع فيها فلسطينيّ شخصية مفهومية ستنوب عنه في التمثيل لاحقاً.
مع ذلك، حدث بعد أن تحوّل "حنظلة" إلى ما يشبه حقاً عامّاً للكثير من التشويه في حقه، بل والاستئثار به واحتكاره سياسياً، واستخدامه ضمن أجندات معيّنة، من دون أدنى اهتمام بما كتبه العلي عن "حنظلة" وكيف قدّمها.
"حنظلة" في العالم
-
عمل للنرويجي أكسل كنودسين
لم يكن هناك أيّ استخدام أو إعادة معالجة فنية لهذه الشخصية الكاريكاتورية الشهيرة، كما رسمها العلي خلال حياته. إذ كان صاحبها لا يزال موجوداً، ولم يخطر في بال أحد أن يتصرّف بالرمز كما وضعه العلي وخلقه.
حتى أنّ الفنانة الفلسطينية، ليلى الشوا، حين استعادت "حنظلة"، استعادته كما هو، وحوّلته إلى بيان سياسي. لم تغيّر شيئاً في وقفته، ولا يديه المعقوفتين إلى الوراء، ولا عمره: 10 سنوات، مثل عمر ناجي حين هُجِّر من فلسطين.
كذلك، لم تكن استعادة "حنظلة" دائماً تشكيلية أو كاريكاتورية، فمرةً أخذت طابعاً روائياً كما في رواية إسماعيل فهد إسماعيل "على عهدة حنظلة"، التي يمكن اعتبارها سيرة ذاتية متخيّلة للعلي، ولا سيما خلال أيام حياته الأخيرة التي أمضاها في لندن قبل أن تقتله رصاصة من مسدس كاتم للصوت، وفي الرواية يسرد المؤلف حواراً تخييلياً بين "حنظلة" والعلي، ويأخذ "حنظلة" دور الوعي أو الذاكرة.
كما يمكن أن تنحو الاستعادة أبعد من ذلك، مثلما فعلت فرقة موسيقية إيطالية مكوّنة من فنانين فلسطينيين وعرب اختارت لنفسها اسم "handalah" عام 1989، وهناك استعادات كثيرة أبرزها استعادة "حنظلة"، كما هو كرمزٍ ثوري على امتداد العالم.
أما استعادته فنياً فتختلط ما بين مناصرة القضية الفلسطينية وبين استخدامه كأجندة سياسية. إذ انتشر في الأيام الأخيرة تصويرٌ له، لا يغيّر منه الكثير إلا حجمه. إذ بدا طفلاً نحيلاً مُجوَّعاً، في إشارة إلى أطفال غزة، وبان أقرب ما يمكن إلى الهيكل العظمي، فانتقل من طور التمثيل الفلسطيني لقضية اللجوء، إلى تمثيل الأطفال الفلسطينيين الذين يجوّعهم الاحتلال الإسرائيلي.
كذلك، استعاده فنان الشارع النرويجي، أكسل كنودسين، المعروف بـ "AFK" في عمل غرافيتي عرضه في ركنٍ معروف وسط مدينة بيرغن على الساحل الغربي للنرويج تحت عنوان "النكبة الجديدة"، وذلك في العام 2020.
وكان الغرض من العمل تسليط الضوء على قرار ضمّ إسرائيليّ لأراضٍ في الضفة الغربية.
صوّر كنودسين رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصهر ومستشار الأخير، جاريد كوشنر، مع علمٍ إسرائيلي يتوسّطه عوضاً عن نجمة داوود شعار القراصنة.
يظهر الثلاثة وهم يقفون فوق "حنظلة" الممدّد تحتهم، فيما يضغط كوشنر بركبته على رقبته. وعلى الرغم من أنّ مغزى العمل التضامن مع فلسطين، لكن في البعد النقدي للصورة التي تُظهر الثلاثة الواقفين بصور مقاربة لملامح وجوههم الطبيعية وأبقت على حنظلة الكاريكاتوري كما هو، ظهر الفلسطيني كما لو أنه مشوّه ومُهان، وغُيّر الشرط التاريخي لحنظلة الواقف، وأصبح إشارة إلى مقتل الأميركي، جورج فلويد.
قبل ذلك كان "حنظلة" قد ظهر في رسمٍ تركي وهو يحتضن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في استثمار سياسي بالرمز. إذ يقبض إردوغان بيده على خصر "حنظلة" المتشبّث به، والناظر، نكايةً، في وجه رموزٍ خليجية. أما المكان ففي القدس. ظهر هذا الرسم على خلفيّة اعتراف ترامب في خطابٍ متلفز بالقدس، الشرقية والغربية، عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، فدعت تركيا "منظّمة التعاون الإسلامي" إلى عقد قمة طارئة للاعتراف بالقدس الشرقية عاصمةً لفلسطين، وهدّد إردوغان الاحتلال حينها بـ "قطع العلاقات".
الولادة من الهزيمة
-
(ليلى الشوا)
لا ينتبه كثيرون ربما إلى ما كتبه ناجي العلي بلسان "حنظلة" عام 1969 في جريدة "السياسة"، إذ يقول: "ولدت في 5 حزيران/يونيو 1967". تاريخ الهزيمة التي يصفها حسن سامي يوسف في روايته "الفلسطيني" على النحو الآتي: "في صيف 1967، هزم موشي ديان جيوش العرب في 6 أيام، وفي اليوم السابع استراح".
هذه الولادة، التي جاءت في قلب الفاجعة، بالتاريخ الذي يحدّده العلي، لا تعطى الكثير من الأهمية. فقد تجاوز "حنظلة" حتى التاريخ الذي وضعه العلي له، وصار ممثّل فلسطين الحقيقي، في الداخل وفي الشتات، وهو الشاهد والراصد، والرادس (رامي الحجر) والراجس (الهادر) والراكس (من قلب الأول عن الآخر) والحارس والدارس والمشاكس والطاسس (الرائي) والرائس والفارس، المر، الحلو، ظلّ يتطوّر وينمو.
كان شكله لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولكنه كان يكبر من الداخل بفعله، ومن خلال تنامي دوره بدأ يتحرّك ويشارك ويفضح ويقسو، حتى صار ضميراً جماعياً في الذاكرة، وأصبح تساؤلاً ملحاً ورمزاً فاعلاً، في صمته وكلامه، في سكونه وحركته، في غنائه ولعبه.
في حوار لرضوى عاشور مع ناجي العلي عام 1985 لمجلة "المواجهة"، قال: "شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة حفظت روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل أو بأنني أكاد أغفو أو أهمل واجبي. أشعر بأنّ هذا الطفل كنقطة ماء على جبيني يصحّيني ويدفعني إلى الحرص، ويحرسني من الخطأ والضياع. إنه كالبوصلة بالنسبة لي، وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين، وليس فقط إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي، ولكن بالمعنى الإنساني والرمزي، أي القضية العادلة".
"حنظلة" كشخصية مفهومية
-
"حنظلة" الجائع اليوم في غزة (متداول على الإنترنت)
وضع الفيلسوفان الفرنسيان، جيل دولوز، وفيليكس غوتاري، هذا المصطلح في كتابهما "ما الفلسفة؟"، للتعبير عن وضعية يقوم فيها المفكّر بتصوّرٍ ذهني ما عبر شخصية متخيّلة أو شبه متخيّلة، مثل زرادشت عند نيتشه، وسقراط عند أفلاطون، ومن الأدب: دون كيخوته والأخوة كارامازوف.
ليس "حنظلة" الشخصية المفهومية أو المفاهيمية الوحيدة من ضمن أعمال العلي. إذ تزخر مدوّنة الأخير بالقدرة على خلق شخصيات مفهومية، فمقابل "حنظلة" وضع العلي تلك الرخويات التي ترمز إلى أبناء أمّته الذاهبين مذهباً آخر في تعاملهم مع العدو، وقد اتسعت أبجدية ناجي العلي لنحو 80 رمزاً وإشارة وعلامة، كانت تتغيّر بتغيّر الرمز نفسه، أبرزها هي مجموعة "الحنفاز"، كما يسمّيها شاكر النابلسي، وهي: حنظلة وفاطمة وصديقتها زينب والزَلمة والعمّة حنيفة، يُضاف إليها الدبلوماسي المتكرّش والفقمازير (من فقمات وخنازير) التي تمثّل الأنظمة على اختلافها.
وأبرز قائمة رموز ناجي هي: العلم (رمز الوطن)، الفقمازير الرخوية (رمز الأنظمة والمؤسسات)، الهلال (رمز الأمل)، الصليب (العذاب)، البترول بآباره وبراميله (الثروة المهدورة)، الأبجدية الإنكليزية (الغرب)، الجريدة (الإعلام)، الأسلاك (الشتات الفلسطيني)، الأرقام (القرارات السياسية المرفوضة والهزائم العسكرية)، ومجموعة الحنفاز، والقلم (رمز الثقافة)، والتضمين (أغانٍ وأهازيج وأناشيد وأمثال شعبية، رمز الروح الشعبية والتراث)، وبيروت (الوطن الثاني في زمن ناجي العلي).
يقال إنّ أشهر جريدة في اليابان "أساهي شمبون" وصفت ناجي العلي بأنه واحد من أشهر 10 رسامي كاريكاتور في العالم، ويقال أيضاً إنّ أحد رسّامي مجلة "التايمز" وصف صاحب "حنظلة" بأنه يرسم بريشة من العظم البشري المبري.