في زمن الجمر: الفن والأدب ليسا ترفاً
أخطر أنواع الخيانة تلك التي تأتي من داخل المعسكر نفسه. أولئك المترفون من الفنانين والكُتّاب الذين يتخلون عن دورهم النقدي، ويختارون طريق المصالح الفردية الضيقة، منعزلين عن هموم شعوبهم وأوطانهم.
-
"الثالث من مايو 1808" - فرانسيسكو دي غويا
بينما تعلو صفارات الإنذار فوق همس القصائد، وتطغى رائحة البارود على عطر الكتب، يخرج علينا من يرمي بكلمة "ترف" على كل لوحة مرسومة، وكل فكرةٍ مُمعنة، وكل سطرٍ مكتوب.
هكذا ينظرون إلى الفنان والمفكّر والأديب وكأنهم يعيشون في برج عاجي، منعزلون عن واقع يئن تحت وطأة الحديد والنار. يظنون أنّ ساحة المعركة هي مكان الجسد فقط، غافلين عن أنّ أعتى الحروب تدور في عقل الإنسان ووجدانه.
لكنّ الطامة الكبرى لا تكمن في المستخفّين من الخارج، بل في أولئك المترفين من الداخل، الذين تخلّوا عن دورهم كحرّاس للجمال والحرية، وانحازوا إلى صفّ الطغيان والنسيان.
نعم، إنّ جراح الجسد نازفة، والمأساة الإنسانية قائمة، ولا يجوز لذي روح حرّة أن يتجاهلها. ولكن أيُعقل أن نطلب من الإنسان أن يعيش بجسدٍ بلا روح؟ أن يأكل ليعيش، ويقاتل ليقتل، ثم يموت من غير أن يخلق معنى لحياته وموته؟
الفنّ والفكر والأدب وقود الروح التي تصنع هذا المعنى، والبوصلة التي تُرشدنا إلى "لماذا" نقاوم، بعد أن عرفنا "كيف" نقاوم. لكنّ هذا الدور الوجودي يتحوّل إلى خيانة عندما يتخلّى الفنان أو الكاتب عن مسؤوليّته، ويصبح صورة من أولئك الذين وصفهم إدوارد سعيد بأنهم انقطعوا عن "الوظيفة النقدية" للفكر، ليصبحوا مجرّد أدوات ترفيه في يد السلطة أو السوق.
ليس الإبداع الفني والأدبي هروباً من الواقع، بل هو مواجهة أعمق له. هو رفض للفناء المزدوج: فناء الجسد وفناء المعنى. عندما يمسك طفل في قبو مظلم بقلم رصاص ليرسم زهرة، فهو لا يزيّن جداراً، بل يعلن أنّ الحياة ستستمر. عندما تُكتب قصيدة خلف القضبان، فهي ليست كلمات تتطاير في الهواء، بل هي طلقة في وجه آلة العدم التي تريد محو الذاكرة والجمال والأمل.
لكنّ هذا الفعل المقاوم يفقد معنى وجوده عندما يتحوّل الفنان إلى مُتْرَفٍ، يسعى وراء المكاسب الشخصية والجوائز الوهمية، متخلياً عن دورهِ كمقاومٍ بالجمال. هؤلاء يساهمون، عن قصد أو غير قصد، في تشييد جدار العزلة حول صوت المضطهدين.
الغزاة والطغاة يعلمون هذا جيداً. أول ما يهاجمونه المتاحف والمكتبات والمسارح. لماذا؟ ولنا شواهد على ذلك في العراق وسوريا وسواهما، لأنّ من يسيطر على السردية يسيطر على التاريخ، ومن يسيطر على التاريخ يملك المستقبل. هم لا يخافون من الرصاصة وحدها، بل يخافون من الفكرة التي تُطلقها، والصورة التي تُخلّدها، والرواية التي تفضحهم أمام العالم وتاريخ.
هنا يبرز دور الناقد الحقيقي، ليس ذلك الذي يختزل العمل الفني في تقنياته الجافة، بل الذي يعمل على "نشر المعرفة" وتوضيح البعد الأخلاقي والاجتماعي للفن. لكنّ الناقد نفسه قد يتحوّل إلى خادم للسلطة أو للسوق، مُحَطِّماً بفعلته هذه أحد أهم أسلحة المقاومة.
في مواجهة جريمة الإبادة في غزة، لم يصمت فنانو العالم. برزت أصوات عديدة رافضة لهذه المأساة الإنسانية، مستخدمة فرشاتها وكاميراتها وأقلامها كأسلحة للتوثيق والمقاومة. هؤلاء الفنانون فهموا الدرس العميق: أنّ الفن هو سلاح الضعفاء الأقوى، وهو وسيلتهم لخرق جدار الصمت الإعلامي، ورواية قصتهم بأنفسهم.
لقد قدّموا نموذجاً حياً لدور الفن كجسر بين المأساة الإنسانية والضمير العالمي. هذا الموقف يقف على النقيض تماماً من أولئك المترفين الذين لاذوا بالصمت أو اختاروا الانحياز للقوة الغاشمة، خائنين بذلك الرسالة الجوهرية للفن.
أما أخطر أنواع الخيانة، فهي تلك التي تأتي من داخل المعسكر نفسه. أولئك المترفون من الفنانين والكُتّاب الذين يتخلون عن دورهم النقدي، ويختارون طريق المصالح الفردية الضيّقة، منعزلين عن هموم شعوبهم وأوطانهم. هؤلاء هم من يحوّلون الفن من فعل مقاومة إلى سلعة استهلاكية، ومن أداة تحرير إلى أداة تبعية. هم "تُبّع للمبدعين وعالة عليهم"، ليسوا سوى باحثين عن ثغرات يتسللون منها لتحقيق مكاسب شخصية، لا ليرفعوا لواء المغامرة والإبداع الحقيقي. بتخلّيهم عن دورهم، لا يخونون فقط شعبهم، بل يخونون جوهر الفن والأدب نفسه، الذي قام منذ البدء على التعبير عن آلام الإنسان وآماله.
تأكيداً أنّ الفن والأدب ليسا ترفاً، بل هما ضرورة وجودية في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، فإنّ الكلمة المبدعة والموقف الشجاع هما السلاح الذي لا يُقهَر. ولو لم تكن الكلمة مؤثّرةً وقادرةً على هزّ عروش الطغاة، لما سارعوا إلى حجبها وقمعها ومحاولة إسكاتها على منصات التواصل، ولما استهدفوا بأسلحتهم أمثال غسان كنفاني الذي حوّل القلم إلى بندقية، وناجي العلي الذي حوّل الرسوم إلى قنابل، ومئات الصحافيين والكتّاب الذين رووا بدمائهم أغلى قصص الحرية.
في زمن النوائب والمِحن، تثبت الكلمة أنها أخفّ من الهواء وأثقل من الجبال، وأنها القادرة على اختراق الحواجز وخرق الحصون. إنها الجذوة التي لا تنطفئ، والسلاح الذي لا يصدأ، والذاكرة التي لا تموت (وفي المواجهة الضارية مع المحتل الإسرائيلي لفلسطين يحتل الصراع على الذاكرة مكانة محورية). فكما أنّ الجسد يحتاج إلى الطعام ليعيش، تحتاج الروح إلى الفن والأدب لتستمر في المقاومة.
هكذا، يبقى الإبداع خندقاً أخيراً للكرامة، وكلمة الحقّ سيفاً مصلتاً على أعناق الجبابرة، إلى أن يتحرّر الإنسان ويصبح الفن حينها هو اللغة الوحيدة التي نتحاور بها عوضاً عن كلّ لغات العنف التي تفرضها قوى الاستعمار والهيمنة.