كيف يجعلنا التعليم أحراراً؟ باولو فيري يجيب
استندت فلسفة البرازيلي، باولو فيري، إلى إمكانية أن يتحرر الإنسان من خلال التعليم، مع التركيز على تمكين المقهورين ومواجهة أنظمة القمع. كيف يحصل ذلك؟
يُعدّ المعلم والفيلسوف البرازيلي، باولو فيري (1921–1997)، أحد أبرز منظّري البيداغوجيا (نظرية التعليم) والعدالة الاجتماعية في القرن العشرين. اشتهر بعمله المحوري "بيداغوجيا المقهورين" الذي صدر عام 1970، وترك أثراً عميقاً في مجالات التعليم والفلسفة والنظرية النقدية.
استندت فلسفة فيري إلى الالتزام بتحرير الإنسان من خلال التعليم، مع التركيز على تمكين المقهورين ومواجهة أنظمة القمع.
وُلد فيري في مدينة ريسيفي البرازيلية، ونشأ خلال فترة الكساد الكبير، حيث واجه الفقر والجوع والتهميش. أثّرت نشأته في بيئة من الطبقة العاملة على وعيه بالعلاقة بين التعليم والسلطة، وساهمت تلك التجربة في تشكيل رؤيته للتعليم كأداة للتغيير المجتمعي.
تخلّى عن مهنته في المحاماة ليتفرغ للبحث في مجال التعليم، مركزاً جهوده على محو أمية البالغين في المناطق الريفية الفقيرة في البرازيل، وهو ما شكّل نواة فلسفته التعليمية. هذا النص هو ترجمة عربية للمقال الذي تناول فيه برونو دي أوليفيرا نظرية فيري عن التعليم كفعل تحرري.
"بيداغوجيا المقهورين"
-
يقترح فيري نموذج "تعليم مواجهة المشكلات" الذي يقوم على الحوار بين المعلم والطالب
طوّر فيري نظرية تعليمية ثورية استناداً إلى خبرته في تعليم الفقراء الأميين في البرازيل. نقد فيري المناهج التقليدية التي تكرّس الظلم الاجتماعي، ورأى أن التعليم يجب أن يكون وسيلة لإيقاظ الوعي وتمكين الفئات المهمّشة من تغيير واقعها.
وكان يرى أن التعليم يجب أن لا يقتصر على نقل المعلومات، بل أن يُعزز الوعي النقدي الذي يُمكّن المقهورين من مقاومة الظلم. التعليم بالنسبة له فعل تحرري يرفض السلبية ويكسر الاستسلام للواقع المفروض.
كتب فيري "بيداغوجيا المقهورين" خلال منفاه في تشيلي بين 1964 و1969، بعد انقلاب العسكر في البرازيل. قدّم في هذا العمل تحليلاً دقيقاً لديناميكيات القمع، مشدداً على أن التعليم يجب أن لا يكون وسيلة لترويض العقول بل لتحريرها.
ويرتكز كتابه على مفهوم "الوعي النقدي"، وهو عملية يصبح فيها الأفراد واعين بالبُنى التي تُكرّس القمع، ويدركون قدرتهم على تغيير تلك البنى من خلال الفهم والفعل.
حظيت أفكار الفيلسوف البرازيلي باهتمام واسع في سياقات ما بعد الاستعمار، حيث عُدّ عمله مرجعاً أساسياً في إصلاح التعليم وتفكيك المنظومات التعليمية المتأثرة بالإرث الاستعماري، خاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
انتقد فيري نموذج "التعليم المصرفي" الذي يصوّر الطلاب كأوعية فارغة يملؤها المعلمون بالمعلومات. ذلك أن هذا النموذج يُعزز بنية السلطة الهرمية، ويمنع الطلاب من التفكير النقدي والمشاركة الفاعلة في عملية التعلم.
في المقابل، يقترح فيري نموذج "تعليم مواجهة المشكلات" الذي يقوم على الحوار بين المعلم والطالب. هنا، لا يكون المعلم مصدر المعرفة الوحيد، بل شريكاً في عملية تعلم تشاركية. ويسعى هذا النموذج إلى خلق بيئة تعليمية أفقية، حيث تُبنى المعرفة من خلال التفاعل والتساؤل المشترك، مستنداً إلى أفكار فيري المستوحاة من الفلسفتين الوجودية والماركسية.
ويدعو فيري في كتابه "بيداغوجيا المقهورين" إلى إعادة التفكير في أهداف التعليم في المجتمعات التي تعاني من عدم المساواة، ويرى فيه وسيلة لا لتحسين الوضع الفردي فقط، بل لتحقيق تحرر جماعي.
رغم تأثيره الواسع، لم يسلم الكتاب من الانتقادات. يرى البعض أن الثنائية التي يعتمدها فيري (المُضطهِد/المُضطهَد) تبسيطية، وأن التطبيق العملي لأفكاره يصطدم بقيود التعليم الرسمي، كما انتقده خصومه من خارج التيار اليساري بسبب توجهه الماركسي الصريح.
"بيداغوجيا التحرر"
-
ركّز باولو فيري على رفض فكرة الحياد في التعليم
شارك باولو فيري مع إيرا شور في تأليف كتاب "بيداغوجيا التحرر" عام 1987، ليكون امتداداً عملياً لفلسفته التعليمية. ركّز الكتاب على تطبيق المبادئ النظرية في الممارسة الصّفية، مؤكداً أن التعليم يجب أن يكون فعلاً تشاركياً يوقظ الوعي النقدي ويحرر كلاً من المعلمين والمتعلمين.
ركّز فيري في هذا العمل على رفض فكرة الحياد في التعليم. وهو يجادل بأن المعلمين حين يدّعون الحياد، فهم فعلياً يُكرّسون الوضع القائم ويمنعون التغيير. من هنا، يدعو المعلمين إلى الاعتراف بدورهم السياسي، والعمل كمثقفين عضويين يساهمون في تفكيك بنى القمع.
يرى فيري أن علاقة المعلم بالطالب يجب أن تُبنى على التأمل المشترك والنقد الذاتي للعالم المحيط، وهي علاقة لا تُضعف المعلم، بل تعيد تعريف دوره كوسيط في عملية بناء المعرفة.
ويؤكد الكتاب مجدداً نقد "النموذج المصرفي" ويُعلي من قيمة النهج الحواري، الذي يرتكز على الممارسة كدمج بين التفكير والفعل. فالتعليم لا يتحقق من دون فعل ملموس يغيّر الواقع. وبينما يعدّ "بيداغوجيا التحرر" مرجعاً هاماً للتعليم القائم على العدالة الاجتماعية، إلا أنه لم يسلم من النقد أيضاً.
إذ يرى منتقدوه أنه مثالي، خاصة في الأنظمة التي تقيّم الحياد الأكاديمي كما في بعض الديمقراطيات الليبرالية. ومع ذلك، يظل العمل أساسياً في النقاشات التعليمية الحديثة، خاصة في ما يتعلق بمناهضة الاستعمار وارتباط التعليم بالنضال من أجل العدالة.
ويدعو الكتاب إلى إعادة تصور جذرية للتعليم، لا كعملية تقنية بل كوسيلة تحفيز للفعل الاجتماعي. ومن خلال مفهوم "الممارسة"، يُشدد فيري على ضرورة تحويل المعرفة إلى أدوات فعلية تفكك البنى الظالمة.
على الرغم من مثاليته، يبقى كتاب "بيداغوجيا التحرر" نصاً محفزاً يدفع نحو فهم أعمق لدور التعليم في التغيير. لقد ألهمت أفكار فيري أجيالاً من المعلمين والناشطين في جميع أنحاء العالم، وأصبح التعليم في فكره مرادفاً للحرية، حيث يمكن للمعرفة والحوار أن يؤديا إلى تحرر حقيقي.
توفي فيري في ساو باولو إثر نوبة قلبية، بعد مسيرة حافلة في تعليم الفقراء والنضال من أجل مجتمعات أكثر عدلاً. ومع ذلك، فإن إرثه لا يزال حيّاً، يحمل الأمل في أن التعليم يمكن أن يكون قوة حقيقية للتغيير.
ترجمة: محمد السادات