لُغَةٌ جَمِيلَةٌ لِأُمَّةٍ حَزِينَة!

ربط اللغة بالهوية قد لا يُرضي "المتعولمين" الداعين بذريعة العولمة إلى التحرر من مفاهيم "بائدة" في نظرهم مثل اللغة والقومية والوطن(!)، ولهؤلاء يجوز القول إليكم الألمان والروس واليابانيين وسواهم من أمم، هل نحن أكثر إسهاماً منهم في العولمة؟

يومٌ عالمي للغة العربية الغارقة بدماء أبنائها من غزة وجنوب لبنان إلى ليبيا والسودان مروراً بسوريا والعراق، وكأن قدر هذه الأمة أن تكتب تاريخها دائماً بالدم والدموع وعرق الكفاح والشقاء. لغة كانت يوماً لغة العلوم والفنون في العالم أجمع، وذلك يوم كان أهلها يدركون دور العلم والفن والأدب في نهضة الشعوب. إذ كيف لأمة أن تنهض وتنتزع مكانتها بين الأمم فيما شرائح كبيرة من أبنائها لا تتقن لغتها ولا تفهم أسرارها ولا تدرك مكامن سحرها وجمالها.

يكفي أن نستمع إلى معظم المسؤولين الرسميين والحكوميين كي ندرك إلى أي درك وصل حال لغتنا مع من يفترض أن يكونوا حراسها والحريصين على بقائها لغة حية نضرة يعتز بها أبناؤها ويفاخرون الأمم كلها. ونكاد نجزم لولا أنها لغة القرآن الكريم لكانت اليوم في خبر كان بفعل الخفّة التي يتعامل بها المسؤولون في الحفاظ عليها في معظم البلدان الناطقة بالعربية.

حال اللغة، كل لغة، من حال أهلها. إذ لا يمكن للغة أن تنتشر وتسود ما لم يكن أهلها في حالة تقدّم ونهوض. فما نراه اليوم لدى شرائح كثيرة من أبناء الضاد لجهة علاقتهم السقيمة بلغتهم ناجم عن حال أمتهم الواهنة، وسعي كثير منهم للتمثّل باللغات المسيطرة، وفي مقدمها اللغة الإنكليزية السائدة بفعل عولمة ذات اتجاه واحد. أي أنها عوض أن تكون عولمة تفاعلية تتلاقح فيها الحضارات والثقافات واللغات أضحت عولمة استعمارية تسعى لهيمنة حضارة واحدة وثقافة واحدة ولغة واحدة ونمط عيش واحد وقيم واحدة.

ولئن كانت "اليونيسكو" قد اختارت هذا العام شعاراً لليوم العالمي للغة العربية هو "العربية لغة الشّعر والفنون"، فإننا وعلى أهمية الشعر والفنون ودورهما في حياة الناس، سوف نظل ندعو لأن تعود العربية أيضاً لغة العلوم. فلا تقدّم ولا نهضة لأمة ما لم تجعل العلم والمعرفة هدفاً أسمى، وإذا لم تضع علماءها في المكانة التي يستحقونها، وتوفر لهم كل أسباب النجاح من دعم ورعاية ومؤسسات بحثية وعلميّة وتكنولوجية وسواها من شروط التقدّم العلمي الذي بات عنواناً رئيسياً من عناوين تقدّم الدول والشعوب في عصر تزداد فيه نزعات السيطرة والهيمنة لدى القوى الاستعمارية المختبئة خلف مصطلح "المجتمع الدولي"!.

كتبتُ كثيراً عن لغتنا الجميلة التي قال عنها المؤرخ والمفكر الفرنسي أرنست رينان إنها "وُلِدَت في غاية الكمال كأنها بلا طفولة ولا شيخوخة". أي أنها لغة فتية شابة على الدوام. وأستعيد من قديمي/الجديد "أنها واحدة من أجمل لغات الأرض، مرنة مطواعة تغدو بين يدي المتمكن منها عجينة يشكّل بها ما شاء من معانٍ ورموز، القابض على أسرارها لا يمكنه إلا أن يكون عاشقاً متيماً بها كأنها حسناء تتهادى تيهاً ودلالاً عارفةً مكانتها ومقامها، وإن تمنعت فعلى غنجٍ ودلال حتى بات سهلها الممتنع من أجمل ما يكون وأشهاه. ولئن اعتراها بَعضُ شحوبٍ وانحناء فليست العلّة فيها وهي قليلةُ حروف العلّة أصلاً، بل في أهلها الذين تكاثرت علّاتهم يعاملونها كيتيمة على موائد لئام، وفي أبنائها الذين ينظرون إليها بِدونية مقيتة وكأنها عالة عليهم لا عِلَّة كيانهم وعنوان وجودهم على قيد الأمم والحياة، غير مدركين أنهم من دونها يغدون كائنات هجينة مثل تلك الكائنات "المستنسخة" في أسواق العولمة الاستهلاكية.

واجب المرء إتقان لغات أجنبية، وكلما عرف لغة جديدة أضاف إنساناً إلى إنسانه، لكن ما جدوى أن تربح العالم وتخسر نفسك؟ هذه حال من يتخلى عن لغته الأم. "اللغة الأم"؟ هل أجمل من إضفاء معاني الأمومة على اللغة. لنفهم أكثر المصطلح ودلالاته يمكننا طرح السؤال على الذين اغتربوا عن لغاتهم واضطروا إلى الكتابة بلغات أخرى، سوف نسمع مشاعر وأفكاراً مماثلة لتلك التي يعيشها المغتربون عن أمهاتهم. نعم، اللغة قادرة على إحاطتنا بنوع من الحنان الرحمي باعثِ الدفء والحرارة والشعور بالانتماء، ولئن كان حبل السرّة بين الأمّ ومولودها يجب أن يُقطع كي يحيا الاثنان فإن حبل اللغة متى انقطع صار الإنسان كائناً هجيناً غريب اللسان، لذا نردد دائماً أن من الممتع جداً فكّ شيفرات اللغات الأخرى والتعرف إلى ثقافات أهلها بلسانهم، لكن إياك أن تخسر لسانك.

ليست اللغة مجرد أداة للتخاطب والتواصل بين البشر وتصريف شؤون عيشهم، لو كانت فقط كذلك لَبقِيَت رموزاً وإشارات كما كان حالها زمن الكهوف والمغاور (المفارقة أنها تعود كذلك في كهوف التكنولوجيا حيث تبدو لغة مواقع التواصل عند كثيرين وقد عادت رموزاً وإشارات)، وليست أيضاً مجرد حامل هوية، إنها صانع هوية أو على الأقل شريك أساس في تكوِّن الهوية وتشكِّلها، وبمقدار ما هي جزء من كينونة الهوية هي في الوقت نفسه جزء من صيرورتها، تتماهى وتتماثل بحال أهلها، الأمم الحية تنتج لغات حية تنتشر وتَشيع حتى على ألسنة الأمم الأخرى، أما الأمم الجامدة المتكلسة فإن حالها ترخي بظلالها على لغاتها حتى تصفرّ وتيبس وتتساقط كأوراق خريف، لسنا نبالغ في ما نذهب إليه إذ ثمة لغات كثيرة انقرضت وصارت في المتاحف أو في خبر كان، ولو لم تكن العربية ضاربة بجذورها في تربة عميقة لأصابها ما أصاب سواها، والحال أنها الآن ليست في أفضل حالاتها بفعل عدم إدراك شرائح واسعة من أبنائها لأهمية رعايتها وصيانتها وتجديدها، فاللغة أشبه بنبتة حية تحتاج ماء وسماداً وتشذيباً ورعاية دائمة، والبرهان ما تفعله مجاميع اللغات في العالم كله من اعتماد مئات المفردات الجديدة كل عام.

ربط اللغة بالهوية قد لا يُرضي "المتعولمين" الداعين بذريعة العولمة إلى التحرر من مفاهيم "بائدة" في نظرهم مثل اللغة والقومية والوطن(!)، ولهؤلاء يجوز القول إليكم الألمان والروس واليابانيين وسواهم من أمم، هل نحن أكثر إسهاماً منهم في العولمة؟ لماذا تحافظ أمم الأرض قاطبة على لغاتها فيما المطلوب منا أن نفعل العكس، أن نتخلى عن لغة تمثل "روح الأمة" وفق المفكر ساطع الحصري، فيما يراها المستشرق الفرنسي جاك بيرك "أشدّ القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب (...) وحالت دون ذوبان المغرب العربي في فرنسا"(الفصحى لغة القرآن لأنور الجندي).

"وُلِدَت في غاية الكمال" أي أنها ناضجة لا تعرف تجاعيد ولا انحناء، اللهم إلا إذا انصرف عنها أهلوها وتركوها في عراء الأيام. لِعربيتنا ميزات لا تتسع لها أسطر وعجالات منها قوة التعبير حتى عن أدقّ خلجات النَّفْس إذ لكل حال مفردة تقولها، بل لكل رتبة من مراتب الحال ما يعادلها لغوياً وهذا نادر في عُرف اللغات وقواميسها.

لغتنا تعبِّر عن أدقّ خلجات نفوسنا، إلّا أنها (كما كتبت في نصٍّ سابق) تعجز أمام هول المذبحة التي يرتكبها المحتل الإسرائيلي في غزة، تعجز أمام دماء الأطفال والنساء والشيوخ، وأمام دمع الأمهات وقهر الرجال، وأمام الخذلان والتواطؤ شرقاً وغرباً، ولولا ثلّة من مقاومين شجعان يكتبون التاريخ برباطة جأشهم وقوة شكيمتهم وعظمة بطولاتهم لقلنا على هذه الأمة السلام!

إنها حقاً لغة جميلة لأمَّةٍ حزينة.