ما علمنا وذقنا

أذكر في زمن الحرب، حين يبدأ التقاصف العشوائي كيف كنّا نهرع إلى الملاجئ أو الطوابق السفلية مستأنسين بالكثرة المجتمعة حتى يصحّ فينا المثل: "الموت بين الأهل نعاس".

كلما مرّ تاريخ 13 نيسان/أبريل انفتح جرح الذاكرة مجدداً، وتداعت ذكريات الحرب المسماة أهلية وما عشناه في لبنان من أهوال ومِحن، وخصوصاً أنني وأبناء جيلي نستطيع تأريخ مراحل أعمارنا المختلفة بالحروب وجولاتها الدموية المدمرة؛ ففي "أرشيف" الذاكرة ما يفيض عن مجلدات وروايات مما علِمنا وذقنا. وعلى الرغم من ذلك، ليست كل تلك الذكريات قاسية ومؤلمة؛ ففي لحظات الموت العميم والخوف العظيم تبدو الحياة أحياناً أكثر فتنةً وغواية.

الذين عاشوا في مدن الحروب مثلنا لن يستغربوا كيف تسير الحياة بمجاورة الموت، وكيف ينظّم النَّاس شؤون عيشهم اليومي كأن لا حرب تدور بين ظهرانيهم، ولا موت يقصف الأعمار ويقطف الأحبة قبل أوانهم. أستعيد تلك "الحياة" وأنا ابن جيل ذاكرته مثقوبة بالرصاص والندوب الهائلة التي يستحيل أن تردمها أو تمحوها الأيام، لأنها تترسب في قاع الوعي والوجدان حتى تغدو مثل أوشام لامرئيّة تبرز في مخيلة صاحبها كلما فُتحَت سيرة حرب وموت وخراب، لكن هل حقاً أن أزمنة الحروب هي فقط أزمنة موت وخراب؟ 

نستدرك فوراً بالقول إن كل حرب مرذولة مذمومة، خصوصاً متى كانت اقتتالاً أهلياً وفتناً وشقاقاً وتصدعات مجتمعية وتناحر هويات قاتلة لا تبقي ولا تذر، لكن لو تغلغلنا قليلاً وسط دخان المعارك، ونفضنا الغبار عن ركام الأمكنة، ورفعنا صوت الموسيقى قليلاً، أعلى من نجمة الحرب من هدير الفولاذ، لوجدنا حياةً في أحشاء الموت وورداً يتفتح وسط الخراب.

هنا أمّ تعدُّ فطور الصباح، وذاك عاشق مسرع إلى ميعاد قبلته الأولى، وتلك حبيبة تعزف على كمان الوداع، وهذه أصوات الباعة تتعالى من هنا وهناك، وزعيق السيارات المتزاحمة يملأ الأجواء، وفي فسحةٍ لم ينشب الإسمنت مخالبه فيها أطفال يتقاذفون كرة قدم بالية... إلى بقية أشكال الحياة المألوفة والمعروفة.

هل في الأمر سرٌّ أو أعجوبة؟ لماذا تختلف مدن الحروب في الواقع عن تلك الصورة القاتمة التي نراها في الشاشات؟ لا نقلّل البتة من شأن الموت، ولا من وقع رحيل الأحبة، ونقف إجلالاً لكل قطرة دم بريئة ولكل دمعة نقية طاهرة، ونعرف أن الحرب قاتلة وظالمة، وأن الرابح فيها خاسر، والخاسر خاسر بطبيعة الحال، يعني أن الجميع خاسرون، ولا سيما أن ما عشناه من حروب أهلية لا يندرج في غير خانة الانتحار الجماعي.

موجِعةٌ هي الحروب. ليتها لا تعرف طريقاً إلى بلد ولا إلى أحد، لكنها للأسف واقعة، وليس لوقعتها نظير. تكسر الأفئدة. تعكّر صفو العيش. تبعثر الأحبة. تمزق الذكريات. ولا تخلّف غير المواجع والمِحَن، لكن الحياة تستمر، بل تغدو أكثر جاذبية وإغواء، كيف؟

كلَّما ارتفعت احتمالات فقدان الشيء ازداد تعلّق الإنسان به. لا يحب أحد الخسارة والفقدان، فما بالك بفقدان الأحبة! في الحرب يتضاعف الخوف، لكن في المقابل يتضاعف الحُبّ. خوفنا على من نُحِب يجعلنا أكثر تعلقاً به، ولهذا نرى الناس في الحروب أكثر اقتراباً وتعاطفاً مع بعضهم بعضاً. 

أذكر في زمن الحرب، حين يبدأ التقاصف العشوائي كيف كنّا نهرع إلى الملاجئ أو الطوابق السفلية مستأنسين بالكثرة المجتمعة حتى يصحّ فينا المثل: "الموت بين الأهل نعاس". أما اذا صُودف وحدثت جولة عنيفة من القتال فيما المرء بمفرده في منزل أو عمارة، فإن أهوال القتال ساعتها تغدو أضعافاً مضاعفة، والخوف يتعاظم حتى يكاد يذهب بصاحبه.

يضع الناس في مناطق الحروب احتمال فقدان حياتهم في الحسبان. تبدو الحياة لحظتها كأنها تسير برفقة الموت. ولأنها مهددة الى هذا الحد، تغدو شهيةً أكثر ومغريةً أكثر، بحيث تبدو تماماً على حقيقتها فرصة لن تتكرر ثانيةً. لهذا، نراها صاخبةً ضاجَّةً حتى تكاد ضوضاؤها تطغى على دويِّ المدافع وهدير الطائرات. 

كلما تعاظم الخطر وتزايد الإحساس بالخوف صارت الحياة أشهى. ولعل أكثر مَن يفهم هذه الحالة هم هواة الرياضات الخطرة ممن يتسلقون الجبال وناطحات السحاب ويسيرون على الحبال أو يقفزون من الارتفاعات الشاهقة. للخوف لذةٌ لا يضاهيها إلا لذة التغلب عليه، وهذا بالظبط ما يفعله الشجعان. يقول الإمام علي بن أبي طالب: "إذا هِبتَ أمراً فقع فيه"، يعني لا تنتظر وقوع ما يخيفك، فانتظاره أصعب من وقوعه. ولعلك حين تقع فيه تكسر حاجز الخوف، ولعله لا يكون بالسوء الذي تخاله.

لحظة الخطر الشديد تستيقظ فينا غريزة البقاء، ونقبل على الحياة بنهم وشراهة، لعلَّنا نغرف منها ما نستطيع قبل أن نمضي إلى حيث لا نعلم عنه شيئاً، لكنْ أياً كانت طبيعة الغرائز التي تفتِّحها الحروب في النفس البشرية، تظل الحرب مقيتة مرذولة، وعلى رأي زهير بن أبي سلمى:

وَما الحربُ إلّا ما عَلِمتم وَذُقتُمُ وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً وَتَضر إذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

ليت أولئك الذين يستسهلون الحديث عن الحرب والتلويح بها كلما "دقّ الكوز بالجرَّة" يصغون إلى ذكريات الذين علموا وذاقوا أهوال الحرب التي تأخذ الأحبة قبل الأوان، وتجعل العمر كومة من المخاوف والهواجس والذكريات الموحشة، والمستقبل أفقاً من القلق المقيت القاتل. ليتهم يعرفون أن الحروب الأهلية ما هي سوى انتحار جماعي، لا منتصر فيها سوى الموت والخراب وغربان السياسات الحمقاء.

**

ماذا تعرفون عن الحرب

‏عن صقيعِ الخوفِ ووحشةِ الترقب

‏ماذا تعرفون

‏عن طفلٍ مذعورٍ

‏عن دميةٍ سقطت من يده

‏عن أغنية ضَلَّت طريقها

‏عن أسرةٍ فرَّت تاركةً شايها الصباحي ساخناً على المائدة

‏عن منزلٍ ضَجِرٍ شوقاً إلى أهله وضحكات الأطفال.

ماذا تعرفون؟

(…)

نحن حُفاةُ القرى والأحلام

‏ﻋﻠﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺷﻬﺪﺍﺋﻨﺎ ﻧﻘيمُ حدائقَ ﻭﺃﻏﻨﻴﺎﺕ 

‏ﻣﻦ جَوْفِ ﺩﻣﻌﺎﺗﻨﺎ ﻧﻘﻄﻒُ ﻭﺭداً ﻭﺍﺑﺘﺴﺎﻣﺎﺕ 

‏نَمْشي الهُوَيْنَى ﻭﻧُﻐﻨّﻲ:

‏تَبّاً ﻟﻠﺤﺮﺏ 

‏تَبّاً ﻟﻠﺨﺮﺍﺏ.

**

مقتطفات من قصيدة سردية للشاعر بعنوان "ماذا تعرفون عن الحرب؟"‏