مرهف يوسف: وخزة في ضمير العالم

تستطيع لوحات مرهف يوسف محاورة مُتلقِّيها ودفعه إلى المشاركة في التفكير والألم وأحياناً الابتسامة، إلى درجة أنها بإبهارها وقدرتها على محاكاة واقع الكثيرين، وبسبب إنسانية موضوعاتها، يمكن تشبيهها بوخزة في ضمير العالم. 

  • من أعمال مرهف يوسف
    من أعمال مرهف يوسف

"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، هذه الجملة التي قالها المتصوف محمد بن عبد الجبار النفري، تنطبق إلى حد كبير على أعمال فنان الكاريكاتور السوري، مرهف يوسف، ضمن معرضه "14 سنة" في غاليري "مجاز" في بيروت.

إذ إنه وإن كان لا يتعامل مع الكلمات بشكل كبير، إلا أن تصويراته للواقع الإنساني عموماً تملك من البلاغة ما يجعلها قادرة على أن تعادل آلاف الكلمات إن لم يكن أكثر. فمن خلال إمعانه في شؤون المجتمع وقضايا السياسة ومواضيع الاقتصاد وغير ذلك، باتت أعماله بمثابة توصيف بليغ لأحوال الناس ومعاناتهم اليومية والدائمة، متخطياً المألوف والسائد نحو خصوصية في القول تُظهرها أفكاره العميقة، وأسلوبه التشكيلي الذي يجمع بين البساطة في الشكل مع العناية بأدق التفاصيل من التكوين إلى الخطوط واللون والإيقاع. 

هكذا تستطيع لوحات مرهف يوسف محاورة مُتلقِّيها ودفعه إلى المشاركة في التفكير والألم وأحياناً الابتسامة، إلى درجة أنها بإبهارها وقدرتها على محاكاة واقع الكثيرين، وبسبب من إنسانية موضوعاتها، يمكن تشبيهها بوخزة في ضمير العالم. 

المميّز أيضاً في ما يرسمه يوسف (1985) هو إتقانه اللعب على الأوتار الحساسة، ليس لجهة مُحرَّمات السياسة والدين والجنس فقط، وإنما لمهارته التعبيرية التي لا تكتفي بإبراز العيوب وتضخيمها، والتَّهكُّم من الخَطَّائين، سواء أكانوا من الساسة والزعماء أو قادة المجتمع المتحكِّمين بمصائر الناس العاديين، أو الآباء الفاشلين، بل إن مهارته الرئيسية تكمن في ذكاء لقطاته وحيويتها وامتلاكها عنصر الديمومة في الزمن، بحيث أنه لا يُصوِّب عَدَسته نحو الحاضر فقط، وإنما يسعى ما استطاع للبحث في أصل المشكلة، والإيغال في أسبابها. حتى أن أعماله تقترب من كونها أرشيفاً لبعض مشكلات الإنسان المُتأصِّلة في حياتنا، ومن الصعب مع تكاتف الدين والسياسة أن تكون حلولها يسيرةً وفي متناول اليد، بل إنها تسير إلى المستقبل بخطىً واثقة، طالما لا تجد قوى قادرة على التغيير والتثوير. 

  • من أعمال مرهف يوسف
    من أعمال مرهف يوسف

بطريقة ما، يمكن اعتبار لوحات مرهف يوسف بمثابة تلك الثورة المطلوبة، لما تتضمنه من الفهم العميق لمشكلات الواقع والدعوة الصريحة لتغييره، وهو ما يحققه التضامن مع أعماله وتصديق الألم الذي يتخللها، من مثل تلك اللوحة التي تُصوِّر ما يمكن تسميته "أوركسترا الموت" حيث تم قتل المايسترو بحامل النوتات، وبدأ العازفون كل يغني على ليلاه، المتشدد الديني يحزُّ السكين على رقبة ضحيته التي باتت كتشيللو مُستسلم، يُجاوره الخطيب الذي استبدل الكمان بلسانه الذي يُتقن العزف عليه، والشيخ يعزف على كَمَنجَة لحيته المُحنّاة، وفي المقابل يكمُّ أحد العازفين فم الأنثى ويُكبِّل يديها، بينما مُمَثِّل جهاز الأمن تائه من دون أي قدرة على ضبط شيء، بما في ذلك الفقير الذي بات جيباه كمنفاخي أكورديون، والعجوز الذي يُرتِّب إيقاعاته على قفا طفل صغير يدرس.

أحد مسببات ذاك الموت هي الحرب التي رفعت من شأن تُجارها وأودت الآخرين إما إلى العجز أو التهلكة أو اختبارات الموت المؤجلة، ويقف في صف الحرب الإعلام الذي يأبى إلا أن يكون كلبَ سَيِّده، وهو ما أشار إليه يوسف بلوحة تُصوِّر وسائل الإعلام الأجنبية تنظر إلى الوضع في غزة من خُرْم الباب المقفل، بينما لا جدران تقف في وجه مهمتهم في حال رغبتهم بمعرفة الحقيقة، ولا سيما أنّ الإعلاميين الصادقين يُقتلون على أبواب غزة وفي قلب شوارعها المُهدَّمة، لتبقى مقولة "نصف الحقيقة كذبة كاملة" هي الوصف الأجمل لمثل تلك الحالة وهو ما صوره مرهف في إحدى لوحاته. 

كلّ ذلك يجعل السلام في الشرق الأوسط مستحيلاً طالما أنه محكوم بالمستفيدين من تعطيله، وهو ما أوضحه فنان الكاريكاتير السوري برسمه حمامة السلام ضمن قوقعة سلحفاة، قسمها الأعلى عمامة، والأسفل خوذة عسكرية، مؤكداً في عمل آخر  أنّ تعانق يدين يمكن أن يُكمِل لحمامة السلام تلك جناحيها المنتوفين. 

  • من أعمال مرهف يوسف
    من أعمال مرهف يوسف

المشكلة الأخرى هي سادية الحُكَّام والجنرالات الذين ينتهكون حقوق شعوبهم، ويتمسكون بكراسيهم، ويورِّثونها، بحيث أن المساحات تضيق على محكوميهم، على عكس حجم كروشهم، لكن رغم كل ذاك العنف السياسي، يرى مرهف أن الأفكار تبقى هي صمام الأمان، وعبَّر عن ذلك برسمه لقنبلة يدوية مؤلفة من وجوه تم تكميم أفواهها لكن أفكارها هي أمانها الوحيد الذي لا يستطيع أحد الوصول إليه أو تكبيله، مهما سعى الحاكم التفرّد برأيه، ومحاورة ذاته من دون الآخرين.  

وعلى جانب آخر من الألم نشاهد عامل نظافة يواظب على تنظيف أوساخ الناس رغم أنه مطعونٌ بمكنسته ولقمة عيشه، وتواصل الأم الاعتناء ببيتها وزوجها وأولادها ولو منعها ذلك أن تنظر إلى وجهها في المرآة لأكثر من 10 سنوات، ولو تحوَّلت من ملكة تاريخية إلى "سيزيف" معاصر، فهي تُصر على إكمال مهامها رغم عنجهية بعض الأزواج الذين يكتفون بالنصر المُظفَّر على سرير الزوجية وبذر نطافهم في الطرقات، بينما تسير المرأة حاملةً ذاك السرير مع كامل تعبها وأحزانها.

ذلك ناجم عن القوالب الجاهزة التي تم وضع الإناث بها، بحيث باتت قيداً لها، وأكبالاً تكبّلها، منذ طفولتها وحتى اكتمال أنوثتها، وبسبب تلك العقلية الاجتماعية المغتصبة لحقوق المرأة، فإنها تصل إلى مرحلة ترغب فيها بإزالة ملامحها كما يحلق زوجها شعر شاربيه، وكل ذلك عبَّر عنه يوسف بعدد من الأعمال التي انتقد فيها بعض الأعراف السيئة مثل الرغبة الدائمة بالمولود الذكر وكأنّ الأنثى عار لا بدّ من الإسراع من تزويجها وهي قاصر، حتى لو لرجل بعمر جدّها، في انتهاك صارخ لبراءتها وحقها في الحياة كأقرانها الذكور. 

  • من أعمال مرهف يوسف
    من أعمال مرهف يوسف

يصوّر يوسف أيضاً في بعض الأعمال التأثير السلبي لوسائل التواصل. إذ يرى بأنّ التلفاز بات ينسج العقول على هواه، بينما قنوات الميديا الحديثة تحوّلت إلى شيطان يلتهم عذرية الفتيات، و"فيسبوك" صيَّاد يسبي النساء، لتصبح الحياة الافتراضية هي الأساس، حتى الشهداء يتمّ تشييعهم على الهاتف المحمول ويتحوّل المشيّعون إلى مجرد تفاعل على منشور الاستشهاد. 

مواضيع كثيرة يتضمّنها المعرض؛ منها موضوع تجنيد الإرهابيين بإغراءات المال والطعام اللذين باتا كالطعم بينما المصيدة هي الخوذة، وهناك الطفولة التي تسخر من ذاك التجنيد وتحوّل البندقية إلى أرجوحة، إلى جانب مواضيع لها علاقة بالعاطفة حيث العقل هو مشنقة القلب في إقامته الجبرية داخل الجسد، وسيطرة الأميركي على بعض الحكّام العرب بعدما أقفل عقلهم وابتلع المفتاح وغير ذلك الكثير. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك