هل التلفزيون جهاز ديمقراطي؟

ما المخاطر التي يطرحها التلفاز على الوعي العامّ والنقاش السياسي؟ وهل هو أداة للسيطرة الشاملة؟ وكيف نصل إلى "ديمقراطية الإعلام" اليوم؟

مع انتشار الإعلام الجماهيري (mass media) والتكنولوجيا الرقمية، أصبح لوسائل الإعلام دورٌ محوريٌّ في تحديد مدى مشاركة الأفراد في الحياة السياسية. يرى دعاة ما يُسمّى بـ"ديمقراطية الإعلام" أنّ إصلاح بنية الإعلام وتنوّع ملكيّته وتعزيز الصحافة العمومية يُمكِّن المجتمع من التداول الحرّ للمعلومات. 

ذلك أنّ "ديمقراطية الإعلام" تُعتبر نهجاً يسعى إلى تحويل الجمهور السلبي إلى مشاركين نشطين في النقاش العامّ، عبر تشجيع المشاركة الشعبية (الصحافة الشعبية)، وتغيير نموذج الإعلام من الربح إلى الخدمة العامّة. 

تنطلق هذه الرؤية من أنّ توسيع آليات التواصل الجماهيري يجب أن يقوّي قيم الديمقراطية ويحمي مبدأ "سيادة الشعب" عبر تمكين كلّ فرد من الوصول إلى المعلومة والمساهمة في النقاش. غير أنّ هذه النظرة الفضلى لا تخلو من انتقادات وتحذيرات. 

ففي القرن العشرين، رصدت المدرسة النقدية الألمانية (مدرسة فرانكفورت) تحوّل "الفضاء العام" كما صاغه الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، إلى مساحة صارت فيها الثقافة والإعلام تحت سيطرة مصالح اقتصادية. إذ تُحوّل الثقافة الجماهيرية والإعلام الجماهيري الجمهور المستقل إلى مستهلكين سلبيين.

الإعلام الرقمي والتلفاز: أدوات مشاركة أم وسائل هيمنة؟

  • يرى أورويل أن ثنائية المعلومة والسيطرة تبرز وظيفة الإعلام الرقابية في ظل الحكم الشمولي
    يرى أورويل أنّ ثنائية المعلومة والسيطرة تبرز وظيفة الإعلام الرقابية في ظل الحكم الشمولي

ترى نظرية "صناعة الثقافة" لكلّ من الفيلسوفَين والسوسيولوجيين الألمانيين، تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر -السبّاقَين عن هابرماس- أنّ الإنتاج الإعلامي السائد يوزّع ترفيهاً يصيب روح النقد بالشلل، فيُضعف القدرات الذهنية للناس على التفكير السياسي المستقل. 

هذا ما يلحظه هابرماس، بأن اتساع تأثير الإعلام أدى إلى "تراجع قوة الحجة العقلية" في النقاش العام، مما خوّل القوى السياسية توجيه الجمهور عبر خطاب مبسّط وجاهز.

في ظلّ هذا التفاوت بين رؤية التحرير ورؤية السيطرة، ظهرت في العقود الأخيرة مفاهيم جديدة مثل الديمقراطية الرقمية، يعرّفها بعض الباحثين بأنها تجمع الممارسات والمؤسسات السياسية مع البنى التحتية الرقمية، بحيث تمكّن التكنولوجيا من إعادة هيكلة الديمقراطية بعيداً عن التأطير التقليدي. 

تاريخياً، سبقت ذلك نماذج مثل "الديمقراطية الإلكترونية" و"الديمقراطية عن بُعد"، وهي فكرة مفادها استخدام شبكات مثل التلفاز أو الإنترنت لتمكين المواطنين من التواصل المباشر من دون وساطة سياسية. 

وتشير الدراسات إلى أنّ هذه النماذج ركّزت على توسيع وصول المعلومات بين المواطنين وتقليل فجوة المشاركة بين العامّة والنخب السياسة. بيد أنّ التطبيق العملي لهذه المفاهيم واجه تحدّيات؛ فقد ظلّ النموذج التقليدي للتمثيل الإعلامي أقوى، مع غلبة نماذج أعمال ربحية تتحكّم في الحسابات والخوارزميات التي تعرض المعلومة. فالتلفاز الذي يعدّ "نافذة على العالم يتمتع بـروح الأغلبية مثله في ذلك مثل الديمقراطية"، كما يصفه الفيلسوف الفرنسي، ريجيس دوبري، في مؤلفه "حياة الصورة وموتها".

  • بورديو يؤكد أن التلفاز يتحرك بمنطق
    بورديو يؤكد أنّ التلفاز يتحرّك بمنطق "جذب الجمهور بأيّ ثمن"

على الرغم من الوعود النظرية، تؤكّد دراسات الميدان السياسي أنّ بروز الإعلام الرقمي قد عزّز في الوقت نفسه ظواهر معاكسة. ففي محاولة لفهم هذه المشاهد الجديدة، أشار كلّ من الأميركيَين، الناقد الاجتماعي، إدوارد هيرمان، والفيلسوف والعالم اللغوي، نعوم تشومسكي، في نموذجهما "صناعة الموافقة" أن المناصب الإعلامية الكبرى تحت سيطرة اهتمامات خاصة ومراكز قوة، تفرض تضييقاً على المحتوى عبر 5 فلاتر (ملكية إعلامية، إعلانات، مصادر رسمية، إلخ). 

بمعنى آخر، فإنّ هيمنة ملكية وسائل الإعلام تركّز السلطة المعلوماتية وتُقلّل من وجهات النظر المتنوّعة. ولهذا فإنّ الإعلام الذي كان يُفترض أن يكون أداة تحريرية، قد صار في بعض الحالات "آلة لإعادة إنتاج العلاقات السائدة"؛ فالموضوعات التي تظهر في وسائل الإعلام تختلف بتوجّهاتها عن السؤال الأساسي للجمهور. وهذا ما يؤدّي إلى إضعاف مفهوم "الفضاء العامّ الديمقراطي" الذي نادى به يورغن هابرماس؛ إذ بدل أن يكون الحديث العامّ منتدى للنقاش الحرّ، صار مستورداً بآليات التحكّم والسيطرة.

يكتسب التلفاز في هذا السياق أهمية خاصّة بوصفه نموذجاً بارزاً للإعلام الجماهيري. انتقد الفيلسوف الفرنسي، بيار بورديو، التلفاز بشدة، مشيراً إلى أنه يتحرّك بمنطق "جذب الجمهور بأيّ ثمن"، فيسمح أحياناً بظهور خطاب شعبي متطرّف. 

نقد الإعلام في الفكر الحديث: من هابرماس وبورديو إلى أورويل وتشومسكي

  • يرى بورديو أن المشاركة في برنامج تلفزيوني
    يرى بورديو أنّ المشاركة في برنامج تلفزيوني "تقوم على خيانة" الرسالة في حال وجود رقابة هائلة

في تقديمه لكتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"، لاحظ بورديو أنّ التلفاز وبعض الصحف يتبعان منطق مطاردة جمهور أكبر على حساب المحتوى الراقي، مما سمح بـ"بروز المحرّضين على الممارسات والأفكار العنصرية ونظرة شوفينية ضيّقة". 

وأوضح أنّ الجديد في هذا التطوّر هو أنّ وسائل الإعلام الحديثة أصبحت تستغل هذه المشاعر الأولية إلى أقصى حدِّ ممكن. بمعنى آخر، تُسهِّل الشاشات الضخمة والأجهزة الرقمية للسياسيين وأصحاب النفوذ استغلال النزعات القومية والانعزالية لدى الجمهور، فتترجمه إلى رسائل شعبوية مبسّطة. 

هذا التحذير من بورديو يكاد يلتقي مع مخاوف الأديب البريطاني، جورج أورويل، في روايته "1984". ففي هذه الرواية يحوّل الإعلام الحكومي (عبر ما أسماه "الشاشات") الحياة الخاصة إلى مراقبة مستمرة، بحيث يصبح الفرد مضطراً لتعديل سلوكه دائماً خوفاً من السلطات. 

ذلك أنّ "آلة الرصد" (telescreen) عند أورويل تلتقط الصوت والصورة في آن معاً باستمرار، ولا يمكن إغلاقها، ما يجعل الأفراد يعون تماماً أنهم مراقَبون دوماً. ثنائية المعلومة والسيطرة هذه تبرز وظيفة الإعلام الرقابية في ظل الحكم الشمولي؛ وتحثّ على الانتباه إلى أنّ التقنية بحدّ ذاتها قد تتحوّل من أداة تمكين إلى أداة قمع إذا ما هيمن عليها الغرض السياسي.

في السياق ذاته يبرز تشديد بورديو على مواضيع الرقابة غير المرئية في التلفاز. في تحليل نقدي موثّق، رجّح أن الرقابة تمتدّ من أول كلمة تُبثّ إلى آخرها، مُعتَبراً أنّ هذه الرقابة هي في حقيقتها "سلطة وسطوة تتلاعب بها أجهزة الشاشات بعقول الناس". 

وقال بورديو إنّ المشاركة في برنامج تلفزيوني "تقوم على خيانة" الرسالة في حال وجود رقابة هائلة، فلا يُحدَّد الموضوع حقيقةً بفعل المشاركين بل بقواعد مفروضة عليهم. إنّ وجود هذه الشروط والقواعد الصارمة يعادل إجباراً مكتوماً، بحيث تصبح القدرة على قول أمر مهمّ عملياً مستبعدة. 

  • علاقة الإعلام بالديمقراطية مركّبة
    علاقة الإعلام بالديمقراطية مركّبة

هكذا يتحوّل المُحاوَرون إلى ممثّلين أمام سيناريو محدّد مسبقاً، وشاشة التلفاز تصبح مرآة نرجسية يعرض فيها الضيوف صورهم مُجمّلة للمشاهدين، وليس منبراً حقيقياً لنقد متسع، فالصورة في التلفاز مجرّد صور مشوّهة أو سيمولاكرية بتعبير المفكّر الفرنسي، جان بودريار، التي تتحوّل بفعل قوة العرض إلى الواقع البديل. 

هذا التقييم النقدي لوسائل الإعلام الجماهيرية من قبل بورديو ورفاقه يذكّرنا بأنّ المحتوى الإعلامي ليس حيادياً، إنما مُغلَّفٌ بمصالح، وغالباً ما يروّج لسُلطة قائمة.

يبدو واضحاً أنّ علاقة الإعلام بالديمقراطية مركّبة: فبينما يمكن للإعلام الرقمي والجماهيري أن يوسّع دائرة المشاركة ويُعلن خطاباً منفتحاً يُقوّي الديمقراطية، يبقى السياق الاقتصادي والسياسي الذي تعمل فيه وسائل الإعلام حاسماً في توجيه مسارها. 

لقد أظهرت الأبحاث أنّ ضمان توفّر إعلام تعدّدي وحرّ، وانفتاح حقيقي على صوت المواطنين، هو السبيل إلى تمكين الديمقراطية. 

وكما يحث مفهوم "ديمقراطية الإعلام"، يجب تحويل الجمهور من مستهلك سلبي إلى شريك فعّال في الخطاب العامّ. وهذا يستلزم وعياً نقدياً من الأفراد لمصادر الإعلام، وتعزيز الرقابة المجتمعية على المحتوى وأصحاب النفوذ، بما يحفظ جوهر الديمقراطية.

اخترنا لك