هل تمدّ الدولة المصرية يدها لعلاج صنع الله إبراهيم؟
يرقد صنع الله إبراهيم في وضع صحي صعب ومناشدات للدولة المصرية للاهتمام به. فهل تمدّ يدها إليه؟ أم "تعاقبه" على رفضه جائزة "المجلس الأعلى للثقافة" احتجاجاً على التطبيع مع "إسرائيل"؟
ظُهر يوم الأربعاء، في 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 2003، ذهب الروائي المصري، صنع الله إبراهيم (1937)، إلى مقر تسلّم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" التي يمنحها "المجلس الأعلى للثقافة". لكنه فاجأ الجميع بوقوفه على المسرح معلناً رفض الجائزة على الملأ، معتبراً حكومة بلاده، مانحة الجائزة، "لا تملك مصداقيّة منحها، لأسباب منها إبقاؤها سفير الاحتلال الإسرائيلي، رغم الممارسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني".
حينها، لم يكتفِ صنع الله إبراهيم بالرفض عن بُعد، بل أصرّ أن يكون الموقف علنياً، ليس من باب الاستعراض. فقد آثر الرجل العيش بين البسطاء من الناس، فلا يمتلك سيارة، ويركب مترو الأنفاق بين حشود المصريين، لكنه ذهب إلى مقر تسلّم الجائزة ليسجّل موقفاً سياسياً وإنسانياً، ما وضع الدولة المصرية في حرج كبير.
وكان الحدث في أيامها أشبه بـ"ترند" صارخ وصيحة اعتراض مدوية في وجه الحكومة المصرية، شغلت الوسط الثقافي المصري لفترة طويلة.
ضدّ التطبيع
-
تميّز إنتاج صنع الله إبراهيم بالتوثيق التاريخي والتركيز على الأوضاع السياسية المصرية والعربية
في العام 2006، التقيت الروائي المصري الراحل، جمال الغيطاني، في مكتبه بجريدة "أخبار الأدب"، وكان صدى رفض صنع الله إبراهيم للجائزة لا يزال يتردّد، فقال لي الغيطاني معلّقاً على الحدث: "المخطئ هو من ذهب إلى صنع الله المعروف بمواقفه"، وأضاف أنّ محاولة استمالة أديب كصنع الله إبراهيم بجائزة كان أمراً يفتقر إلى الذكاء، مؤكّداً أنّ صاحب رواية "بيروت بيروت" فعل ما هو طبيعي تماماً بالنسبة له.
بعد مرور ما يقرب من 22 سنة على هذه الواقعة، يرقد صنع الله إبراهيم اليوم مريضاً حيث يخضع للعلاج في "معهد ناصر" في القاهرة، في إثر تعرّضه لكسر في الحوض، فيما تتصاعد دعوات من مثقّفين وكتّاب مصريين بضرورة توفير رعاية طبية عاجلة وشاملة له تليق بمكانته الأدبية البارزة.
لكنّ الاستجابة حتى الآن من السلطات المصرية غير موجودة، ولسان الحال يقول، ربما الدولة "تردّ الصفعة" لصنع الله إبراهيم على ما فعله معها قبل عقدين، في وقت كان يجب أن تفخر بمبدع كبير مثله، لا أن تصفّي معه حسابات بتجاهل محنة مرضه. إذ كثيراً ما نرى أجهزة الدولة تعلن تولّيها علاج الممثلة فلانة والممثّل فلان والصحافي "علّان" الذي يخدم أجندة الدولة ومواقفها وآراءها. فقد رأينا أعلى الأجهزة الأمنية في مصر ينشر عزاءه ونعيه في الفنان محمود عبد العزيز، الذي كان بطلاً للعمل الدرامي الشهير "رأفت الهجان" مجسّداً بطولات أجهزة الاستخبارات المصرية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. فهل تقلّ قيمة أديب بارز على مستوى الوطن العربي، كصنع الله إبراهيم عن مثل هؤلاء الفنانين؟
نداءات لأصوات متفرّقة
-
رواية "بيروت بيروت" لصنع الله إبراهيم
على اختلاف مواقفهم من الدولة تعالت أصوات كثيرة لمطالبة الجهات المعنية بمدّ يد العون لصنع الله إبراهيم، الذي وقف دائماً في وجه أيّ تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
الكاتب خالد منتصر، المقرّب من السلطة في مصر، أطلق ما سمّاه "نداء ورجاء" لعلاج صنع الله إبراهيم، قال فيه: "واحد من أهم كتّاب الرواية المصريين المعاصرين الآن، ومبدع عظيم.. صنع الله إبراهيم يعاني من كسر في الحوض والحالة مع السن حرجة.. هل من الممكن نقله إلى مستشفى وادي النيل؟"، علماً أن مستشفى وادي النيل تابع لجهاز المخابرات العامّة المصري.
كذلك كتب الشاعر المصري، فاروق جويدة، وكاتب المقال بصحيفة "الأهرام"، كبرى صحف الحكومة المصرية، عبر حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "صنع الله يمرّ بأزمة صحية عنيفة، ويستحقّ اهتماماً ورعاية أكبر"، مطالباً الجهات الرسمية بالتحرّك لضمان تقديم العناية اللازمة له.
كذلك الأمر مع الصحافي والسيناريست، عمر طاهر، الذي أعلن عبر حسابه الشخصي على "فيسبوك"، أنه تلقّى مكالمة هاتفية من المتحدّث باسم وزارة الثقافة المصرية، أكد خلالها وجود متابعة يومية من الوزارة لحالة صنع الله إبراهيم، وأنّ وزير الثقافة زاره بالفعل، لكن لم تُنشر صور الزيارة مراعاة لخصوصية الوضع.
أما الروائي، نعيم صبري، فكتب ما يشبه لفت النظر، عبر حسابه على "فيسبوك"، معبِّراً عن تقديره الكبير لإبراهيم، واصفاً إياه بأنه "واحد من أعلى الشخصيات المصرية قدراً على قيد الحياة الآن".
بعيداً من البطولة
-
يعتبر صنع الله إبراهيم أحد أبرز رموز الرواية العربية الحديثة
يُعتبر صنع الله إبراهيم (88 عاماً)، أحد أبرز رموز الرواية العربية الحديثة، وقد اشتهرت أعمال كثيرة له، منها ما قدّم نقداً للواقع السياسي والاجتماعي في مصر، كروايات "اللجنة"، و"شَرَف"، و"ذات".
ورغم ما يتمتّع به صنع الله من شهرة نظراً إلى مكانته الأدبية، لم يكن يدّعي أيّ بطولة في موقفه من رفض الجائزة واختصام السلطات حينها، وهذه شهادة من الأديب شعبان يوسف الذي قال: "زرت صنع الله في بيته وقتها، ولم يدّع أيّ بطولة في موقفه ولم يظهر عليه أي زهو، بل لم يطالب أياً من المثقّفين باتخاذ موقفه نفسه، وكان يسرد وقائع الحدث ببساطة، ورأى أنّ المثقّفين وأبناء الوسط الأدبي معذورون بالفعل، فلن يستطيع أحد منهم أن يأخذ ذلك الموقف إلّا بعد أن يصل إلى درجة قصوى من الرفض، ودرجة أخرى من القوة والاستقلال ليسا متوفّرين لكثير من الكتّاب والمثقّفين".
وهنا لا نستغرب أبداً، ولا نستبعد أن يعيد صنع الله إبراهيم رفض أيّ يد تُمدّ إليه من الدولة لعلاجه بشكل خاصّ بما يميّزه عن غيره من أبناء الشعب المصري، فهذه تركيبته المستقلة كما عاشها طوال عمره، وهذه أفكاره ومبادؤه. لكنّ هذا لا يعفي السلطات من القيام بمسؤولياتها تجاه واحد من أبنائها المبدعين القلائل بتكريمه وعدم تركه في محنة مرضه. فهو كما وصفه الأديب المصري، أشرف العشماوي عبر صفحته على "فيسبوك"، "ليس روائياً قديراً فحسب، بل مؤرّخ بديل يوثّق المسكوت عنه في يوميات الشعوب. لم يكتب الرواية بقدر ما أعاد تعريفها، فمنذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ظلّ هذا الكاتب العنيد يسير عكس التيار، متسلّحاً بوعي حادّ وثقافة رفيعة، وإيمان لا يتزعزع بدور الأدب في فضح الزيف وكشف ما يُراد له أن يُنسى".
ويضيف: "الرواية عند صنع الله إبراهيم ليست حكاية تُروى، بل وثيقة تُقاوم وتكشف، أهمية صنع الله إبراهيم لا تكمن فقط في ما كتبه، بل في الكيفيّة التي كتب بها. فقد مزج الوثيقة بالخيال ببراعة، واليومي بالتحليلي، راسماً حدوداً جديدة لما يمكن أن تفعله الرواية في مواجهة السلطة، لا بوصفها حاكماً فحسب، بل كمنظومة متكاملة تشمل الإعلام والسياسة والاقتصاد والثقافة".
وتميّز إنتاج صنع الله إبراهيم الأدبي بالتوثيق التاريخي، والتركيز على الأوضاع السياسية في مصر والعالم العربي، فضلاً عن سرده الكثير من حياته الشخصية. ومن أشهر أعماله: رواية "شرف" التي تحتلّ المرتبة الثالثة ضمن أفضل 100 رواية عربية، وكذلك "نجمة أغسطس"، و"العمامة والقبعة"، و"أمريكانلي"، وغيرها.
نال إبراهيم العديد من الجوائز العربية من بينها "جائزة ابن رشد للفكر الحرّ" في ألمانيا عام 2004، و"جائزة كفافيس للأدب" في مصر عام 2017.