"ألوان الطيف".. متعة فكرية وبصرية لسبعة فنانين سوريين

رغم أن كل فنان اختار مجرد لوحتين من تجربته، إلا أن تلك الـ"مُجرَّد" تتخلى عن محدوديتها، لأنها خلاصة بحث واسع ودراسات معمقة في اختيار الموضوعات، وخصوصية الخطوط والألوان، وفي آليات تخصيب الزمن الفني.

أن يجتمع 7 من أبرز الفنانين في الساحة التشكيلية السورية ضمن معرض واحد تحت عنوان "ألوان الطيف" هو بحد ذاته حدث ثقافي مميز، أرادت من خلاله صالة "آرت هاوس" الدمشقية، أن يكون افتتاح موسم عروضها لهذا العام قوياً، لاسيما مع أسماء وازنة لفنانين يحمل كل منهم رؤاه المميزة وصياغاته الفريدة للتعبير عن الواقع الجديد الذي تعيشه البلاد، وعلى اختلاف تصوُّراتهم وانعكاساتها على لوحاتهم، إلا أنهم يجتمعون على  تقديم وجبة دسمة من الجماليات.

ورغم أن كل فنان اختار مجرد لوحتين من تجربته، إلا أن تلك الـ"مُجرَّد" تتخلى عن محدوديتها، لأنها خلاصة بحث واسع ودراسات معمقة في اختيار الموضوعات، وخصوصية الخطوط والألوان، وفي آليات تخصيب الزمن الفني، وأيضاً في العلاقة مع جمهور الفن التشكيلي الذي استمتع في البحث عن مكامن الجمال الجديدة ضمن اشتغالات أولئك الفنانين، وخصوصية النُّور في تجاربهم التي يعود أغلبها إلى عام 2025.    

وفي ما يلي سنقدم قراءة في لوحات المعرض بالتعاون مع الناقد غازي عانا، وذلك في سعي للغوض في عمق التجربة الفنية وتلمس خصوصيتها لدى كل من الأسماء السبعة. 

البداية مع الفنان إحسان عنتابي (1943) الذي اختار عملين رغم صغرهما في المساحة مقارنةً مع زملائه، إلّا أنهما عكسا صدق إحساسه وفيض مشاعره لحظة الرسم. إذ يؤكد فيهما على ثقافة الحياة، جامعاً بين ما هو أصيل من التراث وبين المعاصرة والحداثة، مضيفاً إليها الكثير من طيب شخصيته وشفافيتها، ولذلك الملاحظ في لوحتيه أنهما مشغولتان بواقعية حُلْميّة خاصة، يسعى من خلالها إلى رَوْحنة الطبيعة بأمواج بحرها وسمائها وغيومها، وكأنها مُصاغة لتحاكي نشوة البصيرة أكثر منها متعة البصر. 

أما المتأمل في لوحتي الفنان عبد الله مراد (1944) فلا بد سيلاحظ تلك العلاقة المتناغمة والجدلية الناظمة للخطوط والألوان بالاتفاق مع الضوء الذي غالباً ما يغمر معظم مشاهده على رحابتها، وكأنه بذلك يدفعنا للاقتناع بجمالية الفوضى والعبث بالأشياء، ومع التعمُّق في قراءة لوحتيه فإن كثيراً من المشاعر النبيلة تصلنا عفويةً بصدقها، لاسيما أنهما مشغولتين بعيداً عن الافتعال والشطارة، وكأنه صاغ تلك المربعات من الحلم بالعودة إلى ملاعب الطفولة التي تبرّر له التجريب بكل المواد وما توفّر من أدوات لتبدو تلك التفاصيل جميلة ومدهشة من لطفها وغرابتها في أكثر الأحيان.

ثم الفنان يوسف عبدلكي (مواليد 1951) الذي قال في أكثر من حوار بأنه "لم أرسم في أي يوم سمكاً أو عصافيراً أو سكاكيناً .. كنت دائماً أرسم بشراً"، يعيدنا في لوحتيه بالأبيض والأسود ومساحتهما الكبيرة نسبياً، إلى التفكير مرة أخرى بمدى عمق واقعيته الاحترافية ورمزيته الخلاقة. إذ إنه برسمه لسمكة يتكئ رأسها على إطار داخلي في اللوحة الأولى، وحذاء أنثوي يصل بين رأسي الإطار المعيَّن الشاقوليين في الثانية، يحيلنا إلى ما نعيشه اليوم من جنون في هذا العالم، بحيث أن الإحالة والترميز تصبحان مساحة واسعة لقراءات مختلفة، ليظل الإحساس بالزمن السياسي إن صح التعبير هو الطاغي على اشتغالات هذا الفنان، والمسيطر على فكره واهتماماته بتفاصيل ما يجري هنا وهناك، وإيثاره الإعلاء من قيمة الإنسان ولو بطريقة غير مباشرة، بحيث أنه يرسم الموت لكنه يطلب الحياة، ويصور الجَماد لكنه يُحرِّكه بحساسيته ورهافته، ليؤكد في كل مرّة أنه ابن هذا الزمان وهذا المكان الذين يشكلان بالنهاية حقّه وحقيقته كفنان يؤمن بالإنسان أولاً وأخيراً وبضرورة الحفاظ على كرامته دائماً. 

من جهته، ما زال الفنان إدوار شهدا (1952) يستلهم موضوعاته من نبض الحكايا الشعبية والدينية للإنسان الذي عاش في المنطقة السورية معيداً صياغاتها بطريقة معاصرة وحداثية، محافظاً على روحانية الحكاية أو الأسطورة، والذي يرغب بمعالجتها أو طرحها من خلال اللوحة ناقلاً إحساسه وتفاعله مع الحدث أثناء معالجته له في تلك اللحظة من فيض التعبير، وهذا جزء من عملية البحث الفني والتقني الذي يجعله مختلفاً عن غيره من حيث الصياغة في معالجة اللون والبناء والتكوين، وبالتالي نهوض العناصر جميعها بشكل متوازن في العمل، ولعل العنوان العريض لاشتغالاته الفنية هو أسطرة الحاضر، ومحاولته إيجاد المعادلات البصرية لتحقيق ذلك بما فيها كتابته على زاوية إحدى لوحاته "كم من حق أماتوه، وكم من باطل أحيوه".  

الفنان غسان نعنع (1953) يواظب على أنسنة الأشياء والمادة وتكثيف مشاعره في العمل الفني، لذلك فإنه يهتم بروح الأشياء أكثر من حَرفيتها، وجوهرها أكثر من ظاهرها، ومن هنا يأتي تجسيده للمشاعر الإنسانية، ما بين الحزن والحيرة والضياع، وسعيه لأن ينقل أحاسيس الشخصيات التي تتضمنها مشهدياته بأكبر قدر من الشفافية، والتركيز على إحساس الفنان بها في اللحظة الراهنة، صانعاً تراجيدياته المميزة التي تفيض بمشاهد جنائزية طازجة ينزُّ الزمن منها، ورائحة الدم والرماد والنار.  

بدوره فإن الفنان فؤاد دحدوح (1956) يثبت باستمرار امتلاكه لأدوات تعبيره الخاصة التي تجمع بين النحت والتصوير، فمثلما هو مصوّر متمكـّن حجز لتجربته بين الكبار مكاناً لائقاً، هو أيضاً نحات متمكن وممتلك لأسرار المعرفة الفنية والتقنية، منوّعاً في مواده التي يشتغل عليها باجتهاد فيما يقدّمه في كل مرة يعرض فيها أعماله.

وفي لوحتي الروليف اللتين تضمنهما المعرض جمع بين التصوير والنحت وجعل التناغم واضحاً بين التقنيتين واتفاقهما لصالح القيم التعبيرية للعمل الفني الذي أكثر ما ظهر بفائض المادة وبعض اللون على السطح.

لوحتا باسم دحدوح (1964) تذكرنا بما قاله مرة في أحد معارضه: "هذه الأعمال لن تبوخ لك بما لها وما عليها دفعة واحدة، فلنتمهّل قليلاً ففي لحظة التماهي مع العمل يمكننا أن نرى ما حُمّلت من آثامنا. عندها قد يتسنّى لك سبر أغوار الما وراء هذه الأعمال، وتصبح كما كانت لي مرآة للذات"، لذلك فإنه بين ألوانه الجريئة وخطوطه المميزة يحقق مشهديات غاية في الجمال، تاركاً المشاهدين في حيرة التأويلات والمحاولة بالإمساك بمشاعر شخصياته، التي تُجاهر بغضبها أحياناً وبخوفها وانكفائها في أحيان أخرى. 

 

اخترنا لك